منذ إنكشاف الإرتباط بين جبهة "النصرة" وتنظيم "القاعدة" بشكل رسمي، بدأ الحديث عن محاولات الفصل بينهما بهدف الإستفادة من قدرات "النصرة" العسكرية، من دون البحث في تداعيات هذا الأمر، وكأن التنظيم الإرهابي الأول على مستوى العالم هو مجرد "شركة تجارية" يريد أحد "المساهمين" الإنسحاب منها، لكن المفارقة اللافتة هي أن جناج "القاعدة" السوري والراغبين بـ"استقلاله" يريدون الوصول إلى الهدف نفسه، وهو الإستمرار في عملية إنهاك الجيش السوري أطول فترة ممكنة.
وفي حين لا يزال هذا الموضوع في طور المساعي التي لم تصل إلى نتيجة ملموسة حتى اليوم، على الأقل بشكل علني، يبدو أن المشروع لا يقتصر على "النصرة" فقط، بل يمتد ليشمل مختلف فصائل "القاعدة" المنتشرة في العالم، بهدف تسهيل آليات عملها وفتح مجالات جديدة على صعيد التمويل أمامها، وقد يكون التسريب الأبرز الذي جاء في هذا السياق هو ما تحدث عنه العنصر السابق في التنظيم وجاسوس المخابرات البريطانية لاحقاً أيمن دين، الذي كشف أن "القاعدة" ستحل نفسها خلال هذا العام.
ما يمكن وصفه بعملية "إعادة الهيكلة"، من وجهة نظر مصادر إسلامية متابعة لعمل هذا النوع من الجماعات، يقوم أساساً على نسف النظرية التي روج لها مؤسس "القاعدة" أسامة بن لادن، والتي تنص على محاربة "العدو البعيد"، أي ما هو متعارف عليه في أدبيات الجماعات المتطرفة بـ"التحالف الصليبي اليهودي"، لتحل مكانها نظرية محاربة "العدو القريب"، أي الأنظمة الحاكمة في الدول العربية والإسلامية التي تعمل على أراضيها، والمتعارف عليها بالأدبيات نفسها بتعبير "الطواغيت".
وتشير هذه المصادر، عبر "النشرة"، إلى أن ما ينبغي التوقف عنده هو أن زعيم "القاعدة" الحالي أيمن الظواهري كان، قبل الإتفاق مع بن لادن على تأسيس التنظيم العالمي، من أنصار النظرية التي تقول بأولوية قتال "العدو القريب"، وكان يطبقها خلال مرحلة الحرب بين تنظيم "الجهاد" ونظام الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، ما يعتبر من وجهة نظرها عودة إلى الأسس التي كان يؤمن بها سابقاً، والسبب قد يكون "المصلحة العملية"، إذا تم إبعاد هذه التنظيمات عن نظرية التشغيل من قبل جهات مخابراتية، أو "أهداف المشغلين" في حال التسليم بأنّها ليست إلا أدوات بيد قوى إقليمية ودولية كبرى، مع ترجيحها الإحتمال الثاني على نحو أكبر.
وفي هذا السياق، تشير المصادر إلى أن "القاعدة"، منذ ما قبل مقتل بن لادن، لم تعد ذلك التنظيم الهرمي الذي تسيطر عليه قيادته بشكل كامل، والأمر توسع مع تسلم الظواهري الزعامة، وتلفت إلى أن كل المراسلات والإتصالات السرية، التي تم الكشف عنها في السنوات الأخيرة، تؤكد بأن القيادة لم تكن على إطلاع مسبق بما يقوم به عناصرها على الأرض في أكثر من مكان، لا بل ترصد إمتعاض بن لادن من بعض التصرفات، وبالتالي أصبحت "الزعامة" مجرد غطاء لجذب المقاتلين والتبرعات من قبل المسؤولين عن الفصائل التي تعلن "البيعة".
من هذا المنطلق، ترى المصادر الإسلامية المتابعة أن موضوع إعلان "البيعة" من عدمه لم يكن له أهمية كبرى على الصعيد العملي، وهنا ينبغي ذكر إعلان تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" إنفصاله، بعد أن إصطدمت مصالحه مع "القاعدة" بسبب الخلاف مع "النصرة"، لكن ذلك لا يمكن إبعاده عن سياق عام تعمل عليه بعض الأجنحة الإقليمية والدولية، والحديث عن هذا الأمر ليس جديداً، وما لا يتنبه له الكثيرون أن هناك محاولات حصلت وتحصل في أماكن أخرى من العالم، والهدف الأساس منها إدخال تلك الفصائل في العملية السياسية في بعض الدول من ناحية، والإستفادة منها في تحقيق بعض الأهداف من ناحية أخرى، بعد أن تحولت الأنظار إلى الخطر الجديد المتمثل بتنظيم "داعش".
وتذكّر بالإتصالات بين الولايات المتحدة وحركة "طالبان" الأفغانية، برعاية قطرية، وما نتج عنها من فتح الحركة لمكتبٍ لها في الدوحة، في حزيران 2013، وعملية تبادل بين جندي أميركي ومجموعة من سجناء معتقل غوانتانامو، كخطوة أولى نحو التوصل إلى اتفاق سلام، قبل أن يتم إغلاق المكتب بعد شهر بعدما أثار استياء الرئيس الأفغاني السابق حميد كرزاي، وفي العام الحالي تحدثت مصادر "طالبان" عن إحتمال حصول لقاء مع موفدين أميركيين في قطر، إلا أن البيت الأبيض نفى إمكانية حصول ذلك في هذه المرحلة، مع العلم أن هناك أكثر من دعوة صدرت عن مسؤولين أميركيين لفك الإرتباط بين "طالبان" والقاعدة".
بالنسبة إلى المصادر الإسلامية، التطور "الفاقع" في الوقت الراهن هو ما يحصل على الساحة السورية، من خلال الجهود التي تبذل لفك الإرتباط بين "القاعدة" و"النصرة"، وتعتبر أن تجربة "جيش الفتح" التي حصلت في إدلب قد تتكرر، خصوصاً أن بعض المعلومات تحدثت عن القيام بالأمر نفسه في حلب، والهدف منه تبرير تقديم الدعم لـ"النصرة" من قبل جهات إقليمية ودولية، إلا أنها تشير إلى محاولات قائمة لتعميم التجربة في ليبيا واليمن أيضاً.
وعلى الرغم من أنّ هذا التوجه يضرب منطقياً معيارًا أساسيًا تقوم عليه الجماعات الإسلامية، لاسيما المتطرفة منها، وهو أنه من خلال الهوية الدينية التي تعلن الإنتماء لها لا يمكن أن تكون مؤمنة بالحدود بين الدول، أو معترف بها في سياق عملها، بالإضافة إلى أن أغلبها يعمل في أكثر من دولة، كونها أساساً تتمركز في مناطق حدودية، ومقاتليها ليسوا من أبناء دولة واحدة، فإنّ المراجع تعتبر أن الخيار العملي هو أن تعلن فصائل معينة الإبتعاد عن "القاعدة" أو تندمج في سياق فصائل أخرى، من دون أن يعني ذلك حل التنظيم بشكل نهائي.
وبعيداً عن أسباب التنظيم العالمي وفصائله في عملية "إعادة الهيكلة"، من المفارقة في مكان أنها تأتي مع التوجهات الأميركية القاضية بالتحول إلى نظام "الوكالة" بادارة منطقة الشرق الأوسط، وهنا يمكن القول أن توجه "القاعدة" السابق ساعد في تبرير تدخلها المباشر، في حين أن التوجه الجديد يساعدها في الخطة الجديدة.
في المحصلة، هو توجه خيار بدأ يطرح بقوة على الساحة الإقليمية والدولية، سيترك تداعيات كبرى على المشهدين السياسي والعسكري في المنطقة، لكن بحال تنفيذه سيؤكد ما بات معلوماً أن الإرهاب ليس إلا أداة من أدوات تحقيق المصالح.