مرّت مسألة موت اللواء رستم غزالي بأقل قدر ممكن من الاهتمام، نطراً للاحداث التي تشهدها سوريا حالياً، ولكن اسمه بقي في لبنان مرادفاً لفترة غير قصيرة من الاحتلال والهيمنة السورية على القرار اللبناني وكوكبة من السياسيين فيه.
ولكن خروج غزالي من الصورة، لم يوقف النائب سعد الحريري من محاولة اعادته الى المشهد العام مجدداً حتى بعد وفاته، فنجح رئيس الحكومة السابق في شقٍّ من المحاولة لكنه فشل في شقّ آخر. ويمكن القول ان الحريري نجح في الشكل، في اثارة انتباه البعض حين قال ان غزالي حاول قبل وفاته الابلاغ عن امر ما. هذا الغموض كونه صادر عن الحريري نفسه اوحى وكأن ما اراد غزالي التحدث به يرمي الى كشف معلومات عن مسألة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. وبمجرد ان غزالي توفي قبل ان يوصل هذه المعلومات، وفق ما قاله الحريري الابن، فهذا يوحي ايضاً ان النظام السوري هو المسؤول عن وفاته ليطمس الحقيقة.
واختار الحريري اطلاق موقفه هذا في الولايات المتحدة الاميركية وهي المكان الانسب لاثارة الشكوك حول هذا الموضوع تحديداً، وامام وسائل اعلام اميركية كفيلة بمتابعته.
اما في المضمون، فلم ينجح الحريري في الدخول الى منطق الامور واقناع الناس بما قاله. صحيح ان النظام السوري قد يكون وراء مقتل غزالي بطريقة ما، ولكن ان يكون قتله من اجل ضمان عدم كشفه عن معلومات حول عملية اغتيال الحريري الاب، فأمر يحتمل التأويل.
فوفق كلام الحريري الابن، "اتصل غزالي بشخص اعرفه واعطيناه رقم تلفزيون المستقبل. إذ اراد أن يطل عبره وأن يقول شيئاً. ولكن الفرصة لم تتح له كما حصل مع غازي كنعان الذي انتحر بخمس رصاصات". وهنا لا بد من السؤال: لماذا انتظر غزالي كل هذا الوقت لاتخاذ قراره بالكلام وكشف المستور؟ وألا يعلم، وهو الذي كان "رجل النظام" الاستخباراتي، انه سيلاقي مصيراً مشؤوماً اذا ما خاطر بايصال الرسائل والافصاح عن معلومات لا يجب ان تنشر؟
واللافت ايضاً ان غزالي لم يضمّن رسالته اي معلومة ولو صغيرة تكون كفيلة بتصديقه. الا ان ما لا يمكن تصديقه ابداً انه طلب رقم هاتف تلفزيون المستقبل كي يطل عبره ويتحدث...
من الطبيعي ان يكون غزالي مصدراً مهماً للمعلومات في كل "شاردة وواردة" مرّت على لبنان خلال السنوات التي تولى فيها ادارة شؤون هذا البلد بتكليف من القيادة السورية، ولكن حتى الآن على الاقل لا يمكن اثبات اي تورط له او لمسؤولين سوريين باغتيال الحريري الاب. اما وفاته فهي بحد ذاتها لغز لا يمكن كشفه بسهولة نظراً الى تعقيد الامور في الداخل السوري، فهل تمت تصفيته ام قتل بسبب خلافات شخصية ام بسبب صفقات مالية؟... كلها امور قابلة للتصديق ولكنها غير قابلة للاثبات، لينضم غزالي الى قافلة المسؤولين الذين غادروا هذه الحياة بغموض حاملين معهم اسرارهم الى القبر للكشف عنها في الحياة الابدية.
لعل كل ما اراده النائب الحريري من كلامه، اتهام النظام السوري باغتيال احد رجالاته، ولكنه اوحى وكأن غزالي قد تاب عما فعله وقرر "تصفية ذمته" قبل ان تتم تصفيته، فهل هذا صحيح؟
باختصار، نجح النائب الحريري في اثارة الشكوك حول مقتل غزالي، لكنه لم ينجح كثيراً في وضع هذه الشكوك في خانة المحكمة الدولية التي لا تزال اعمالها مستمرة في لاهاي في قضية اغتيال والده.
ووسط معمعة اقليمية ودولية افقدت المحكمة وهجها وجردتها من خطورة ما يمكن ان يصدر عنها، من المهم التذكير بأن الحكم سيتأخر لفترة غير محددة قد يصبح خلالها للشرق الاوسط صورة مغايرة تماماً وخريطة جديدة، وقد يفقد اناس كثيرون حياتهم لتزداد دائرة الغموض وتتسع.