صحيح أنّ معركة رابحة هنا ومعركة خاسرة هناك لا تُغيّر مجريات حرب واسعة، بل تدخل في السياق الطبيعي لمُطلق أيّ حرب، لكنّ الأصحّ أنّها تُؤشّر إلى مَنحى مُحدّد تسلكه الحروب الطويلة لصالح هذه الجهة أو تلك في فترات زمنيّة مُعيّنة. وفي الأسابيع والأشهر القليلة الماضية، مالت التطوّرات الميدانية في سوريا لصالح غير النظام و​الجيش السوري​ّين في أغلبيّة المواجهات التي وقعت مع إستثناءات طفيفة. فما هي الوقائع التي تؤكّد ذلك، وماذا يعني في المُقابل إنتصار الجيش السوري والقوى الحليفة له في ​معركة القلمون​ الحالية؟

أوّلاً: على الجبهة الجنوبية في سوريا، سَقطت في الأسابيع القليلة الماضية "بصرى الشام" والقلعة التاريخية في ريف درعا بيد الجماعات المُسلّحة المعارضة للنظام. وتلا ذلك سقوط معبر نصيب الحدودي بين سوريا والأردن، ليُستكمل الحصار البرّي المفروض على سوريا من مختلف الجهات، مع إستثناءات محدودة، أبرزها المعابر مع لبنان.

ثانياً: على الجبهة الشمالية في سوريا، سقطت مدينة إدلب بيد المعارضة، وتلا ذلك سقوط مدينة "جسر الشغور" وإرتفاع فرص خروج كامل محافظة إدلب عن سيطرة النظام السوري، لولا المُسارعة إلى إرسال وحدات قتالية كبيرة لوقف هجوم وتقدّم المُسلّحين، علماً أنّه يُوجد أكثر من تقرير يتحدّث عن وصول مقاتلين من "حزب الله" إلى محيط جسر الشغور، وهي من المواقع التي قصدها أمين عام "الحزب" السيد حسن نصر الله من دون أن يُسميّها، عندما تحدّث أخيراً عن تواجد لمقاتليه في مواقع في سوريا لم يتواجدوا فيها في السابق.

ثالثاً: بالنسبة إلى الهجمات الكبيرة التي نفّذها الجيش السوري، فهي تركّزت على الجبهة الجنوبية في مثلّث درعا – القنيطرة – ريف دمشق، وقد نجحت القوى المُهاجمة في إخراج المُسلّحين من العديد من البلدات والمزارع(1)، لكن الهجوم الذي حُشدت له وحدات كبيرة، وإستغرق الإعداد له فترة طويلة، لقي مُقاومة شرسة وسرعان ما توقّف من دون تحقيق نتائج إستراتيجيّة كبيرة(2). لكن النظام السوري سارع إلى التقليل من الفشل في التقدّم جنوباً، بالإعلان أنّ العمليّة العسكرية كانت فقط لفرض خط دفاعي متماسك، يحول دون تعرّض العاصمة دمشق لهجوم من المُسلّحين إنطلاقاً من مواقعهم الجنوبيّة.

رابعاً: في الوقت الذي كانت فيه الأنظار مُتجهة جنوباً، فاجأ الجيش السوري المعارضة بهجوم كبير ومباغت في ريف حلب الشمالي، ووصل إلى بُعد نحو ثلاثة كيلومترات عن بلدتي نبل والزهراء المحاصرتين، قبل أن يتعرّض لهجوم مُضاد أخرجه من مختلف البلدات والقرى التي كان قد إستعادها من الجماعات المُسلّحة، مع تسجيل سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى من الطرفين.

وبالتالي، وبعيداً عن بعض معارك الكرّ والفرّ الصغيرة هنا وهناك، وعن نظريّات التدخّل التركي والأردني، أثبتت الوقائع الميدانية في الأشهر الثلاثة الأخيرة تراجع الجيش السوري إلى الوضعيّة الدفاعيّة في أكثر من منطقة، وفشله في إحراز تقدّم يُذكر في الهجمات الكبيرة والأساسيّة التي نفّذها، من دون أن يعني ذلك تغيّراً إستراتيجياً في موازين القوى على الأرض السورية، علماً أنّ المواجهات الأخيرة تُمثّل دليلاً على أنّ العمل على تغذية الحرب مُستمرّ، وستبقى مفتوحة في المستقبل القريب، في ظلّ إنسداد أفق الحل السياسي. وإذا كان وصول صواريخ متطوّرة مُضادة للدروع إلى أيدي الجماعات المُسلّحة قد لعب دوراً مهماً في تعديل موازين القوى، فإنّ الأحاديث تزداد بشأن دراسة جدّية لإمكان مدّ المعارضة بصواريخ أرض-جوّ عالية الفعّالة، علماً أنّ حصول ذلك سيعني فقدان النظام السوري تفوّقه الجوّي الحاسم.

وبالإنتقال إلى تطوّرات معركة القلمون الحالية، فهي بالفعل غير مرتبطة بالمعارك السابقة، ولا تُمثّل ردّاً من قبل النظام وحلفائه على الخسائر على جبهات أخرى، حيث أنّ حساباتها مُختلفة وأهدافها أيضاً، والتحضيرات لها سبقت المعارك الكبيرة التي وقعت في الأشهر القليلة الماضية في الجنوب والشمال السوري. وحتى لحظة كتابة هذا المقال، كانت المعارك في جرود القلمون تدور على تلال وهضاب إستراتيجيّة مُحدّدة، لجهة إعتماد سياسة "القضم المُتتالي" لنقاط إستراتيجيّة، من دون أن تبلغ بعد مرحلة الهجوم الشامل من مختلف الجهات. وفي الوقت الذي تمّ فيه تسجيل خسائر بشريّة عالية في صفوف كل من المُهاجمين والمُدافعين، تمكّن الجيش السوري وقوّات "حزب الله" من إحراز تقدّم ميداني كبير على أكثر من تلّة مُهمّة(3)، علماً أنّ القوى المهاجمة إختارت بدء المعركة بنصر ميداني-معنوي عبر إستهداف جرود عسال الورد التي تقع في مكان وسطي بين بلدتي يبرود ورنكوس، وكلاهما تحت سيطرة النظام السوري و"الحزب" منذ أكثر من عام، لا سيّما أنّ عسال الورد نفسها لم تكن بكاملها بقبضة المعارضة. ويسعى "حزب الله" للسيطرة أوّلاً على ما يُسمّى منطقة "القلمون الوسطى"، لربط مواقعه بعضها ببعض، ولتقطيع مراكز إنتشار المُسلّحين في القلمون إلى أجزاء متفرّقة، وهو نجح بالفعل في وصل جرود عسال الورد السورية بجرود بريتال اللبنانيّة.

وفي المعلومات أنّ الجماعات المُعارضة المسلّحة حاولت تطبيق أسلوب الكمائن، لإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف المهاجمين، لكن إعتماد سياسة هجوميّة دقيقة من قبل الجيش السوري و"حزب الله"، لجهة تركيز الثقل الميداني على موقع جغرافي مُحدّد، والتقدّم إليه دون سواه، بعد غارات كثيفة وقصف مدفعي وصاروخي عنيف وبعد تدمير آليّات المُسلّحين من مسافات بعيدة بصواريخ مُوجّهة، حدّ من حجم خسائر المُهاجمين. وبعيداً عن التفاصيل الميدانية القابلة للتغيّر بين ساعة وأخرى، وبين يوم وآخر، يُمكن القول إنّ هجوم القلمون الذي يُنفّذه الجيش السوري و"حزب الله" سيُحقّق-في حال نجاحه بشكل كامل، النتائج التالية:

أوّلاً: الإستفادة من نحو 15,000 مُقاتل من الجيش السوري و"حزب الله" مفصولين إلى هذه الجبهة، من الجهتين السوريّة واللبنانيّة، وإعادة توزيعهم على جبهات أخرى، وإمكان الإستفادة منهم في هجمات ميدانية تحتاج إلى عناصر مُشاة كبيرة.

ثانياً: توسيع الدائرة الجغرافية المُتصلة بعضها ببعض والمُصَنّفة "آمنة" بالنسبة إلى تحرّكات كل من الجيش السوري و"حزب الله"، وتعزيز قدرات الإمداد اللوجستي بين لبنان وسوريا، والتخلّص من الجوّ المَيداني الضاغط والشعور المعنوي القلق، في أكثر من بلدة وقرية لبنانية حدودية وفي أكثر من منطقة سورية أيضاً.

ثالثاً: تخفيف تأثير الدعم اللوجستي للجماعات المُسلّحة المُعارضة، من لبنان نحو سوريا، إلى الحدود الدنيا، بعكس واقع الحال بين سوريا وكل من تركيا والأردن والعراق.

في الختام، خسائر النظام السوري الثابتة بالوقائع في كل من بصرى الشام ومعبر نصيب وإدلب وجسر الشغور، لن تُسفر عن سقوطه بالتأكيد، والخسائر المُفترضة للمعارضة عند وصول معركة القلمون إلى نهايتها لن تؤدّي إلى القضاء عليها. وبالتالي، كل هذه الجولات القتاليّة هي مُجرّد محطّات ربح وخسارة في حرب دمويّة مفتوحة، تؤكّد كل المعطيات أنّها ستستمرّ بضراوة في المُستقبل القريب.

(1) أبرزها: ديرماكر، دير العدس، الدناجي، الهباريّة، خربة سلطانة، جمريت، والسبسبة، إلخ.

(2) مثل إستعادة السيطرة على الخط الحدودي مع الجيش الإسرائيلي، وخاصة على معبر القنيطرة الحدودي في الجولان السوري المحتلّ، ومثل إستعادة السيطرة على "تل الحارة" الإستراتيجي والذي يُطلّ على مساحات جغرافية واسعة في الجنوب السوري.

(3) منها مثلاً تلّة "خربة نحلة" الإستراتيجيّة والتي تُشرف على جرود "عسال الورد" وشرق جرود بريتال.