«لو بقيت في أثيوبيا لكنت في حال أفضل، ولو كنت أعرف إسرائيل لفضلت الموت جوعاً في أفريقيا«.
بهذه العبارات اختصر أحد المستوطنين اليهود الأثيوبيين الذين أغرتهم الوكالة اليهودية بالهجرة إلى فلسطين المحتلة، وضع هؤلاء اليهود الفلاشا في كيان العدو الصهيوني، بعد نحو ثلاثين سنة على استقدامهم بأسطول من الطائرات في سياق المخطط الصهيوني لدفع جميع اليهود في العالم للهجرة إلى فلسطين باعتبارها »أرض الميعاد التي وعدهم بها الرب«، لكن الهدف الحقيقي يكمن في تهويد ارض فلسطين، عبر زيادة أعداد المستوطنين الصهاينة في مقابل تزايد الفلسطينيين الذين يحققون نسبة توالد مرتفعة على عكس المستوطنين اليهود.
غير أن هؤلاء اليهود الفلاشا، لم يجدوا أن هناك فرقا شاسعاً بين »المن والسلوى« التي وعدوا بهما، إذا ما هاجروا إلى فلسطين، وبين الفقر والعوز والحرمان الذي كانوا يقبعون فيه في أثيوبيا، وقد تبين لهم على مدى العقود الثلاثة الماضية ان الجحيم الفعلي ليس في أثيوبيا، بلدهم الأصلي، وإنما هو في الكيان الصهيوني، فقد كانوا في أثيوبيا لا يعرفون التمييز العنصري في الوظيفة والخدمة العسكرية والمدارس والجامعات وفي النظرة إليهم من قبل المواطنين الأثيوبيين الأخريين، أما في الكيان الصهيوني فقد تعرفوا على ذلك، وعانوا منه أينما ذهبوا وحلوا، وينظر إليهم بنظرة دونية، ويعاملون كالحيوانات حسبما وصف احدهم الممارسات العنصرية بحق اليهود الفلاشا، والذين بات مطلبهم المساواة والعدالة بينهم وبين جميع المستوطنين الصهاينة الأخريين من اشكناز وسفارديم.
وقد تفاقمت الممارسات العنصرية في الأوانة الأخيرة في كل مكان على نحو لم يعد يحتمل بسبب:
ـ رفض قبول الطلاب الأثيوبيين في المدارس.
ـ المعاملة السيئة في الدوائر الرسمية، وفي الشارع والنوادي.
ـ التمييز في داخل المؤسسات العسكرية والأمنية .
ـ صعوبة الحصول على فرصة للعمل.
ووصل الأمر مؤخراً حد اعتداء شرطي إسرائيلي على جندي من أصول أثيوبية مما أدى إلى تفجير موجهة من الغضب في صفوف المستوطنين الأثيوبيين واندفاعهم إلى الاحتجاج في تظاهرات غاضبة شارك فيها الآلاف ضد هذه الممارسات العنصرية في القدس، وتل أبيب، وبالتالي حصول صدامات عنيفة مع الجيش والشرطة، ما أدى إلى إصابة العشرات بجروح، تماماً كما حصل في بعض المدن الأميركية، وأخرها بالتيمور، من مواجهات بين رجال الشرطة ومواطنين أميركيين سود اثر إقدام عناصر الشرطة بالاعتداء بالضرب في الشارع على احد المواطنين السود في حادثة باتت تتكرر في الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة من دون إن يلقى مرتكبي مثل هذه الاعتداءات العقاب القانوني العادل، وهو ما يحدث حالياً في كيان العدو الصهيوني، حيث شكلت لجان تحقيق لامتصاص غضب السود لكنها لا تنصفهم.
وبالنظر إلى مثل هذه السياسات العنصرية القبيحة يتضح أنها ليست مفاجئة، وهي ناتجة عن الآتي:
أولاً: إن نشأة الكيان الصهيوني بالأصل قامت وتقوم على الإرهاب وارتكاب المجازر الوحشية بحق المواطنين العرب الفلسطينيين، سكان البلاد الأصليين، وتهجريهم من أرضهم والاستيلاء عليها، ومن ثم إقامة نظام صهيوني يعتبر الفلسطيني مواطن من الدرجة الثانية، وجرى على هذا الأساس سن القوانين والتشريعات التي تكرس التمييز العنصري في التعامل معهم.
ومثل هذه النشأة مماثلة لنشأة دولة الولايات المتحدة الأميركية التي قامت على أنقاض الهنود الحمر، سكان أميركا الأصليين، حيث جرى شن حرب إبادة بحقهم، بينما تعامل الحكم الاميركي، الحديث العهد، مع السود باعتبارهم عبيد يعملون في منازل البيض الأغنياء وفي مزارعهم، ولم يجر تحريرهم إلا بعد انتفاضات قام بها السود في أميركا أبرزها انتفاضة مارتن كينغ ضد نظام التمييز العنصري.
غير أن ذلك لم يؤدِ إلى إلغاء الممارسات العنصرية ضد السود، بل أنها استمرت وتفاقمت في الآونة الأخيرة وطفت مجدداً إلى السطح، خصوصاً بعد تفجر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية عام 2008، وتزايد الفقر والبؤس في أميركا وأعداد العاطلين عن العمل.
ثانياً: إن النظام الصهيوني يقوم أيضاً على التمييز بين المستوطنين اليهود الغربيين (الاشكناز) والمستوطنين اليهود الشرقيين ( السفارديم) انطلاقاً من نظرة استعلائية ينظر إليها الاشكناز الأغنياء القادمين من أميركا والدول الغربية، باعتبارهم في مرتبة اجتماعية أعلى من السفارديم الذين جاؤوا من الدول العربية، وهم معظمهم فقراء .
ويظهر التمييز في الفئتين الاجتماعيتين في سيطرة الاشكناز منذ البداية على مفاصل الحكم، ومؤسسات الحركة الصهيونية، قبل أن تحصل عمليات هجرة اليهود الشرقيين في الخمسينات من القرن الماضي، أي بعد سنوات على اغتصاب فلسطين من قبل العصابات الصهيونية وولادة ما سمي بدولة إسرائيل عام 1948.
ثالثاً: إن ما يسمى المجتمع الصهيوني هو في الحقيقة ليس مجتمعاً، أو شعباً كما يتم الادعاء، زيفاً وتضليلاً، إنما هو عبارة عن عملية تجميع قسرية لأناس من قوميات متعددة، لا يربط بينهم سوى انتماءهم الديني ( اليهودية)، وهذا التجميع لم يؤدِ إلى تحقيق ما سمي مشروع الانصهار، أو الدمج.
فالإنتماء الديني ليس هو الأساس في تكوين أي قومية، أو شعب في العالم، وإلاّ ماذا يجمع مثلاً الشعب الفرنسي، أو الاميركي، أو الألماني، أو الروسي، أو العربي ..الخ.
أليس التاريخ الواحد والعادات والتقاليد والثقافة المشتركة والعيش على ارض واحدة منذ مئات السنين، والتحدث بلغة موحدة هي لغتهم الأم.
من هنا فان الفروقات والشروخات الواسعة بين اليهود الذين جرى استقدامهم إلى فلسطين المحتلة على مدى العقود الماضية لا يمكن محوها، لسبب بسيط، وهو أن لكل فئة من هؤلاء تاريخ وماض ِ وعادات وتقاليد مغايرة للفئة الأخرى، فالآتي من فرنسا مثلاً يختلف كلياً في ثقافته وتربيته وعاداته عن ذاك الآتي من أثيوبيا أو من روسيا أو من الدول العربية.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك طبيعة النظام الصهيوني القائم بالأصل على التمييز العنصري والتفرقة يمكن عندها أن نفهم لماذا يصعب تحقيق الانصهار وبلوغ الحلم الصهيوني في دولة ترتكز إلى مجتمع يملك مقومات الوحدة القومية التي تتميز بها المجتمعات الأخرى في العالم.
وإذا كانت الممارسات العنصرية الصهيونية لم تطفو إلى السطح بهذا الشكل في الماضي، إنما لان الكيان الصهيوني كان يعيش في مرحلة من الازدهار الاقتصادي والرفاه، أما اليوم فبعد انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية في أميركا، واشتداد حدة الأزمة في الدول الغربية، بفعل الركود الاقتصادي وتزايد معدلات الدين والعجز في موازنات هذه الدول بعد هذه الأزمات أصبح الكيان الصهيوني يواجه ظروفاً اقتصادية واجتماعية غير مريحة بسبب تقلص قدرة الدول الغربية على مده بالمساعدات الكبيرة التي كانت توفر له إمكانيات شن الحروب، وتحقيق مستوى من الرفاهية للمستوطنين مماثل لذالك الذي تنعم به الدول الأوروبية المتطورة، ولأن نسبة الفقراء في أوساط اليهود الفلاشا هي الأعلى في الكيان الصهيوني، فضلاً عن معاملتهم كعبيد، فأنهم تأثروا كثيراً بتراجع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، واصبحو غير قادرين على تحمل التمييز العنصري من ناحية، وتزايد الفقر والحرمان من ناحية ثانية، ولذلك انفجر غضبهم ضد هذه السياسات في الشارع للمطالبة بالمساواة والعدالة الاجتماعية، وهم يحنون إلى وطنهم الأم في أثيوبيا بعدما اكتشفوا متأخرين انه أرحم بالنسبة لهم من كيان صهيوني قام على اغتصاب أرض الفلسطينيين وإنتهاج سياسات التمييز العنصري.