في إطلالة كريمة للسيد الرئيس بشار الأسد خلال مشاركته في احتفالات عيد الشهداء في مدارس أبناء الشهداء في العاصمة السورية دمشق، تحدث السيد الرئيس في جملة عناوين مهمة، أكد فيها ومن خلالها مواقف لطالما كرّسها ورسّخها وبشكل مستمرّ، إلا أنّ اللافت في الأمر، أو في هذه العناوين التي توقف عندها، أنّ سيادته أصرّ على أنّ جسر الشغور سوف تحرّر من الإرهابيين الذين سيطروا عليها، من خلال إشارة أو تصريح مهم له بأنّ المحاصرين في المستشفى الوطني سوف يتمّ الوصول إليهم قريباً، وأكد أنّ هذا الوصول حتميّ ولا يمكن أن يكون خارج هذه الحسابات لسيادته.
وفعلاً وبعد ساعات بدأت طلائع القوات المسلحة تطرق أبواب جسر الشغور، وبدأت تعمل على ملاحقة تلك المجموعات التي خطفت المدينة والتي حاصرت مستشفاها الوطني، بخاصة أنّ المشفى فيها مجموعة من عناصر القوات المسلحة الذين لم يغادروا أو يتركوها بعد دخول المسلحين إليها، حيث أداروا مواجهة باسلة سوف تسجل في تاريخ الصمود السوري.
الرئيس الأسد أكّد على جسر الشغور، لكنّه لم يتحدث عن إدلب ولم يعدنا بشيء حولها، فقد تجاوزها ولم يعلّق عليها لجهة تاريخ عودتها إلى حضن الوطن السوري، تماماً كما فعل في خطاب القسم الأخير، حين تحدث عن عودة الرقة إلى حضن الوطن، لكنّه لم يقل لنا متى يمكن أن تكون هذه العودة.
وهنا يمكن أن يطرح السؤال التالي: لماذا لم يحدّد السيد الرئيس تاريخ عودة الرقة، لكنّه أكد أنّها عائدة؟ ثم لماذا لم يحدّد تاريخ عودة إدلب، علما أنّه أصرّ وأكد وبشكل واضح جداً، على أن جسر الشغور عائدة؟!
وهنا وبناء على ذلك لا نعتقد أنّ استعادة هذه الأجزاء من الجغرافيا، تتعلق بإمكان الاستعادة، أو بقدرة القوات المسلحة على استعادتها، إضافة إلى أنّ هناك كثيراً من المفاصل والرؤوس التي هي أضعف بكثير من وضع الرقة أو وضع إدلب، لكنّنا نعتقد أن هناك قراراً بعدم استعادتها الآن، ومثالها القريب الواضح والجليّ حاضر وموجود على أكتاف العاصمة دمشق، من داريا إلى المعضمية، مروراً بعشرات هذه الرؤوس، إذ أنّنا لا نعتقد أنّ القرار باستعادة داريا أو خان الشيح يتطلب وصول مزيد من القوات المسلحة، كما أنّنا لا نعتقد أن حي الوعر على سبيل المثال يحتاج إلى مزيد من القوات لاستعادته، بخاصة أنّ هناك أحياء من مدينة حمص أو ريفها تمّت استعادتها وهي أكثر تعقيداً من حي الوعر أو غيره.
نعتقد أنّ استراتيجية مواجهة العدوان أو صدّه قامت على رئيسيات مهمة وأساسية، ومنذ اللحظات الأولى للعدوان، حيث كنّا قد أشرنا لبعض هذه الرئيسيات في أكثر من وقفة، غير أنّنا نرى أنّ هناك رئيسية لا بدّ من فهمها في هذه الاستراتيجية، وهي الرئيسية التي تتحدث عن هزيمة العدوان وأدواته تحت عنوانه الحقيقي الذي قام عليه، وعدم الوقوع في مطب هزيمته تحت عنوانه الافتراضي الذي سوّقته أطراف العدوان، وهو ما نريد توضيحه في هذه السطور.
لقد قامت استراتيجية العدوان على الوطن السوري تحت عنوان افتراضي وفاقع، اشتغلت عليه وسائل إعلام وصدّرته على أنّه حقيقة الحاصل في سورية، وهو عنوان «الثورة»، و«الثورة» هنا بمعناها الافتراضي تحتاج إلى رافعتها أو أدواتها الافتراضية، والطبيعي أن تكون رافعتها وأدواتها هم «الثوّار»، حيث تمّ تقديم وتسويق هذه الرافعة وهذه الأدوات على أنّها نظيفة وذات أهداف نظيفة أيضاً، من خلال التركيز عليها بشكل مضلل ووهمي غير حقيقي، غير أنّ اجتهاد الدولة السورية في تظهير هذه الرافعة وتلك الأدوات أدى إلى الكشف عن الوجه الحقيقي لها، وأضحى الصراع في جزئية منه على شكل ومشروع وحقيقة هذه الرافعة أو هذه الأدوات، وهو ما أدى أخيراً إلى تظهير «داعش» وتظهير «جبهة النصرة» وعشرات المجموعات المسلحة الإرهابية الأخرى، وذلك بعد عمل أمني واستخباراتي وعسكري هائل، قامت به الدولة السورية.
في ظلّ هذا الإخفاق الكبير الذي منيّت به أطراف العدوان بحثت عمّا هو غير ذلك تماماً، فقد عبرت عن موقفها السلبي من هذه الرافعة وتلك الأدوات التي تمارس العدوان، واعتبرتها أنّها مجموعات إرهابية فعلاً، لكنّها أوجدت البديل «النظري» منها، وهو ما أطلقت عليه مفهوم «المعارضة المسلحة»، ثم اعتبرت هذه «المعارضة المسلحة» أنها «معارضة معتدلة»، لكنّها في الآن ذاته أبقت على الأداة الرئيسية والتي وصفتها بالإرهاب واتخذت بحقها قرارات دولية، أبقت عليها أدوات استعمال قائمة، في ظل تداخل كبير وتشويش هائل حول المشهد الميداني للحاصل في سورية..
استراتيجية الصمود والمواجهة للدولة السورية تقوم على إلحاق الهزيمة بالأدوات والرافعة التي استعملها العدوان بعد فضحها وإظهارها على حقيقتها، وطالما أنّ هناك اشتباكاً قائماً حتى اللحظة في أكثر من نقطة ومفصل ورأس، وطالما أنّ هناك تداخلاً في عناوين ومسميات هذه الأدوات، وأنّها لا تؤثر بشكل كبير في «جغرافيا المجال الحيوي للدولة»، ويمكن استغلالها من قبل أطراف العدوان، فإنّه مطلوب إبقاء الاشتباك قائماً حتى إلحاق الهزيمة السياسية والأمنية بأطراف العدوان، عندها سوف تتخلّى أطراف العدوان عن هذه الأدوات، مثلما تخلت عن أجزاء منها، وسوف تتراجع عن دعمها، وإرغامها على وصفها بحقيقتها المطلقة بأنها مجموعات مسلحة تمارس الإرهاب.
عند هذه النقطة بالذات أتصور وأعتقد أنّ الدولة السورية ستكون جاهزة لإنهاء هذه الأدوات وإلحاق الهزيمة الكاملة بها، لكن هذه الهزيمة سوف تكون تحت مسمى: «إلحاق الهزيمة بالمجموعات الإرهابية»، وليس: «إلحاق الهزيمة بالثوّار»!
لهذا يمكننا الآن أن نجيب على السؤال العنوان، فالرئيس بشار الأسد وعد بتحرير جسر الشغور كونها تمثل جزءاً من شريان مهم لجهة المجال الحيوي للدولة، ثم أنّ هناك مجموعة من أبناء القوات المسلحة لا بد من تخليصهم من الحصار الواقع عليهم، في حين أنّ إدلب لا بدّ من تحريرها بعد أن يتمّ تقديم حقيقة الحاصل فيها، ليس للسوريين فقط، وإنما أيضاً لغيرهم، وغيرهم كثيرون.