بعد أيام قليلة على التحولات التي حصلت على الساحة السورية، بفضل الدعم غير المسبوق الذي حظيت فيه قوى المعارضة المسلحة من جانب السعودية وتركيا، والذي أثار حوله قلق الدول الغربية المعنية في محاربة الإرهاب، نتيجة وصول أسلحة نوعية إلى جبهة "النصرة"، جناح تنظيم "القاعدة" السوري، نجح المحور المقابل في احداث تبدلات كبرى على المستوى الإستراتيجي، ستترك من دون أدنى شك تداعياتها السياسية، من إستعادة زمام المبادرة على محور مدينة جسر الشغور إلى الإنتصارات الهامة على جبهة جبال القلمون السورية، مروراً بزيارة رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجردي إلى العاصمة السورية دمشق.
في هذه الأيام، تقرأ مصادر مطلعة، عبر "النشرة"، في كل ما حصل رسائل متعددة الإتجاهات، كانت بداياتها مع كلمة أمين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله الأخيرة، والتي أكدت متانة التحالف بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدولة السورية، وأن خسارة بعض المناطق في الحرب ليس أمراً يستحق وضعه في سياق أكبر من حجمه، لا سيما أن المعارك على الأرض مستمرة، وبالتالي الإنتصار هنا أو الخسارة هناك أمر طبيعي جداً، ينبغي التعاطي معه وفق حجمه والبحث عن أسبابه الحقيقية.
وفي ضوء المفاوضات بين طهران والدول الكبرى، حول الملف النووي، جرى العمل على الترويج بشكل مكثف لنظرية مفادها أن النجاحات التي أحرزتها قوى المعارضة السورية، جاءت بغض نظر إيراني عن الدور التركي الواضح، ولم يتوقف الحديث عن تخلي القيادة الإيرانية عن دعمها المطلق للرئيس السوري بشار الأسد، بسبب إنشغالها في ساحات أخرى، أبرزها الصراع في اليمن الذي أخذ بعداً إقليمياً خطيراً بسبب تحوله إلى مواجهة إيرانية سعودية مباشرة، إلا أن زيارة بروجردي السورية على رأس وفد رفيع المستوى أكدت بأن التحالف بين الجانبين أقوى من أي وقت مضى، خصوصاً أنها تزامنت مع تحقيق إنتصارات مهمة في جبال القلمون، كان لـ"حزب الله" الدور الأساس فيها، ومع تقدم نوعي للقوات السورية في مدينة جسر الشغور الإستراتيجية.
وتشير المصادر المطلعة إلى أن ظهور مدير مكتب الأمن القومي السوري اللواء علي مملوك، خلال لقاء الأسد وبروجردي، لم يكن أمراً عادياً، لا بل كان رسالة بحد ذاته، كون الشائعات لم تتوقف عن ملاحقته في الأيام الأخيرة، متحدثة عن مرضه أو وضعه في الإقامة الجبرية، وملمحة إلى محاولة إنقلاب كان ينوي القيام بها الرجل الأمني بسبب تعاظم النفوذ الإيراني في بلاده.
بالنسبة إلى هذه المصادر، الرسائل الأساس كانت من ساحات القلمون القتالية، التي أثبتت أن لا تراجع عن الحسم العسكري في ظل الإتصالات والمشاورات الدولية، وهي كانت مؤشراً إلى إحتمال إنتقال القوة نفسها إلى المناطق الحدودية الأخرى، خصوصاً في الشمال والجنوب السوري، حيث العمل على تثبيت وقائع التقسيم الذي يتم الحديث عنه في الدوائر الكبرى، والذي يتناغم مع نظرية "الفدرلة" التي باتت طاغية على الأرض العراقية.
بالإضافة إلى الرسائل الخاصة بالساحة السورية، تشير المصادر إلى رسائل متعلقة بالصراع مع الإسرائيلي، مفادها أن "حزب الله" لم يستنزف في الحرب السورية، بل على العكس من ذلك راكم مقاتلوه خبرات قتالية هامة على صعيد المعارك الهجومية، من الممكن إستخدامها في أي مواجهة مستقبلية، وردّة فعل تل أبيب على هزيمة مقاتلي جبهة "النصرة" وفصائل المعارضة السورية كانت أكبر دليل، حيث ظهرت بموقع الخاسر في رهاناته، لا سيما أن المخطط كان إشغال المحور المقابل في معارك داخلية تكرس الإستقرار الإسرائيلي الداخلي.
أما على الصعيد اللبناني، بات واضحاً السعي إلى تحييد هذه الساحة، المصنفة بـ"الخاصرة الرخوة" في الأدبيات السورية عن سير المعارك، بعد السيطرة السابقة على القرى والبلدات الحدودية لناحية الشمال، واليوم يمكن القول أن خطر الحدود البقاعية بات محصوراً، لا بل من الممكن الحديث عن القضاء عليه، بعد أن أصبحت المجموعات المسلحة في موقع الدفاع عن النفس في مساحة صغيرة، وهناك حديث في بعض الدوائر عن إمكانيات أن يكون هناك تداعيات مهمة على الصعيد السياسي، من الملف الرئاسي إلى التعيينات في الأجهزة الأمنية.
في ظل هذه الوقائع، تبرز المخاوف من إحتمال إنتقال الصراع في القلمون إلى الداخل اللبناني، أي إلى بلدة عرسال الحدودية التي شهدت مواجهات سابقة بين الجيش اللبناني وكل من تنظيم "داعش" وجبهة "النصرة"، لا سيما أن خطوط إنسحابهما كانت باتجاه جرود البلدة، لكن الواضح أن المؤسسة العسكرية كانت قد أعدت العدة لهذا الإحتمال، وهي عملت على تحصين مواقعها المتقدمة لمنع تحقيق إي إختراق غير محسوب النتائج، مدعومة بقرار إقليمي ودولي يصر على تفادي هذا السيناريو الخطير.
في المحصلة، حتى الآن لم تنطلق صفارة المفاوضات على الأرض السورية، فالكل يعمل على تحسين أوراقه العسكرية والأمنية بغية الإستفادة منها سياسياً لاحقاً، وتبقى إحتمالات فتح هذه الجبهة أو تلك قائمة في أي ساعة.