ذاب الثلج وبان المرج. هو الذوبان الذي انتظرته المجموعات التكفيرية والإرهابية، وترقّبه المتعاطفون معها، لعلّه يحمل معه "بشائر" قلبٍ للطاولة في مكانٍ ما، فإذا بالنتيجة تأتي معاكسة، وأسرع ممّا توقّعه أكثر المتفائلين.
طُبّل لمعركة القلمون وزُمّر كثيراً. منذ أشهرٍ طويلة، والإعداد لها يجري على قدم وساق. صافرة الانطلاق تأخّرت هي الأخرى. وعندما "دقّت" ساعة الحقيقة، أخذ الارهابيّون "زمام المبادرة". قالوا أنّهم بادروا بالهجوم، ولكنّهم بادروا أيضًا بالخسائر والخيبات، فتوالى سقوط المناطق الاستراتيجية من يدهم، من دون مقاومةٍ تُذكَر..
إلى الميدان دُر..
إلى الميدان نزلت "النشرة" ترصد وتستطلع، جولة قادتها لأكثر من نقطة استعادها "حزب الله" والجيش السوري خلال الأيام الماضية، جولة بدأت من منطقة الخشعات حيث الحدود متداخلة بين لبنان وسوريا، على بعد 27 كيلومتر من عرسال، والتي يحدّها من الشرق اتجاه الباروح ومن الغرب لبنان ومن الشمال اتجاه عرسال ومن الجنوب الاتجاه الذي يوصل إلى حدود الطفيل، وهي منطقة تُعَدّ النقطة الأقرب منها هي قرنة عبد الحق على خط الرأس ومن الجهة الثانية مرتفعات جبل الباروح. وقد شملت الجولة أيضًا معسكر الجبّة الذي كان يعتمده الإرهابيون، لإجراء التدريبات وأيضًا لتفخيخ السيارات التي ينطلق جزءٌ منها باتجاه لبنان.
هنا، لا أثر للحياة نهائياً، فالمنطقة جردية بالكامل، وقد يكون في ذلك بيت القصيد ومكمن الداء. الطريق للوصول إليها وعرة جدًا، بل إنّ المرء يصعب عليه التمييز في جغرافيتها. رغم ذلك، تلفت الداخل إليها بعض "اللوحات" التي تعود لأيام سيطرة الإرهابيين عليها، على الأرجح، منها مثلاً لوحة تشير لمكان "غرفة الإسعاف"، أو حتى إشارات تدلّ على "اتجاه السير".
رغم استعادة هذه المناطق بشكل كامل من قبل "حزب الله" والجيش السوري، فإنّ تطهيرها بالكامل لا يزال على قدمٍ وساق. لا تزال تُسمَع في المكان أصوات انفجاراتٍ ناجمة عن تفجير عبواتٍ كان الإرهابيون قد تركوها وراءهم، وهم الذين لا يفرّون من أماكنهم، إلا بعد أن يفخّخوها ممنّين النفس بأن تسفر عن خسائر لن تقدّم وتؤخّر في تراجعهم شيئاً.
للمعركة بُعدان..
قيل الكثير في معركة القلمون منذ أشهرٍ خلت حتى اليوم. "تبرّأ" كثيرون منها قبل أوانها، واعتبروا فيها "توريطاً" للبنان ليس في موضعه، وسيُدخِل لبنان في "المجهول".
على الأرض، يبدو بوضوح أنّ هذه القراءة تفتقر للكثير من الدقّة. في النقاط التي زارتها "النشرة"، كان بالإمكان رصد سياراتٍ مفخخةٍ خلّفها الإرهابيون وراءهم، وبعض هذه السيارات تحمل لوحاتٍ لبنانية، وبالتالي فإنّ المخطط التفجيري والتخريبي لدى هذه المجموعات لا يمكن أن يكون ناشئاً من المعركة المستجدّة، بل هو سابقٌ لها بأشواط.
هذا ما يؤكده أحد القادة الميدانيين على الأرض، متحدّثاً بشكلٍ واضحٍ لا يحتمل اللبس عن بُعدين أساسيين للمعركة، بالمنحى الاستراتيجي لا السياسي الذي يرفض الدخول فيه، باعتبار أنه ليس من اختصاصه. ويوضح أنّ البُعد الأول لها يكمن في أنّ هذه المنطقة كانت تشكل تهديداً على الخاصرة اللبنانية على مجموعة من البلدات والمدن، كاشفاً أنّ مدينة بعلبك نفسها كانت مهدّدة بشكلٍ أو بآخر، ويلفت إلى أنّه تمّ رفع التهديد لخط يونين، علماً أنّ المسلحين لا يزالون موجودين جنوب إصبع الطفيل، ولا يزال هناك تهديد صاروخي بمكان ما ولكن بعيد ويتمركز في الجرود والمزارع لا أكثر.
أما البُعد الثاني للمعركة، فيشير المسؤول العسكري نفسه إلى أنه مرتبط بخط دمشق حمص وكامل منطقة القلمون التي تشكل خاصرة للعاصمة السوريّة، ويلفت إلى أنه تمّ تأمين جزء كبير من هذا التهديد الذي يصطلح عليه في سوريا بالقلمون الغربي. وهنا، يؤكد أنّ الجيش السوري مشارك بشكل رئيس وأساسي وفعال في الاتجاه السوري من المعركة، بخلاف ما يصوّره البعض.
جبهة النصرة تتراجع..
في النتائج الميدانية التي تحققت حتى الآن، تقهقرٌ وخسارة تعيشها "جبهة النصرة" بشكلٍ أساسي، وهي التي خسرت حتى الآن أكثر من ثمانين بالمئة من المنطقة التي كانت تسيطر عليها قبل بدء المعركة، كما فقدت السيطرة أيضًا على ثلاثة من أصل أربعة غرف عمليات تابعة لها تتمركز في عسال الورد والجبة ورأس المعرة، ليبقى لديها فقط غرفة عمليات واحدة عاملة في فليطا، إضافة إلى "غرفة الجبهة"، وهي الغرفة الرئيسية التي تدير غرف العمليات الأخرى. ويُضاف إلى ذلك أنّ عدداً كبيراً من قيادات "النصرة" قتلوا، وبينهم قيادات رفيعة المستوى، علمًا أنّ من لم يُقتَل إما فرّ باتجاه الشمال أو أسِر كما يقول المنطق العسكري.
وإذا كان المسلحون يعتمدون على مبدأ قتالي محدد يقوم على التجميعات والمواقع الدفاعية، علمًا أنّ التجميعات تعني بالعلم العسكري المناطق التي يتجمّع فيها المسلحون للانتقال إلى المواقع الدفاعية، فإنّ القائد الميداني يكشف عن تدمير أربعين من هذه التجميعات العسكرية منذ بدء المعركة، دخل الإعلام إلى جزءٍ منها فقط، نظراً لوجود مفخّخات في الجزء الثاني وعدم اكتمال عملية تنظيفها مئة بالمئة، لافتاً إلى أنّ أكبر هذه التجميعات سُجّل في منطقة سهلة الواطية، المعيصرة، مسؤوله عماد دياب الملقب بالعمدة، وعديده 300 مقاتل.
عمومًا، يكشف القائد الميداني أنّ المنطقة التي تمّ تحريرها (لغاية كتابة هذه الأسطر) حوالي 300 كلم مربع بين لبنان وسوريا، بينها 56 كلم مربع داخل الاراضي اللبنانية و247 كلم داخل الأراضي السورية، ويلفت إلى أنّ هذه المناطق المحررة تتمركز داخل لبنان في جرد بريتال، جرد بعلبك، جرد نحلة، وصولاً إلى حدود جرد عرسال، علما أنّ المنطقة كلها مساحتها 1000 كلم وانتشار الإرهابيين في المنطقة الحمراء كما تسمى بالعلم العسكري، وهي المنطقة التي يسيطر عليها العدو، كانت تساوي 700 كلم قبل بدء المعركة، وطولها من جرد القاع في لبنان أو جوسة والبريج وصولاً إلى جرد الطفيل، علمًا أنّ إصبع الطفيل ممتدّ داخل الأراضي السورية بطول 11 كلم.
أما المهلة الزمنية التي يستغرقها الانتهاء من كلّ منطقة فيعود لصعوبة التضاريس الجغرافية أولاً، ولحجم ومستوى التحضيرات الهندسية المرتبطة بإيجاد تفخيخات وتشبيكات، ولذلك ضرورة التأنّي في عملية التطهير. بمعنى آخر، فإنّ عملية الاختراق تكون سريعة ولكن الصعوبة في عملية التطهير من حيث تنظيف كلّ المنطقة بشكلٍ كاملٍ ونهائي.
هكذا برزت الرجال..
"قالوا فلتبرز الرجال، فبرزت الرجال"...
هذه هي باختصار المعادلة التي يسير عليها "حزب الله" في معركة القلمون، كما يروي مسؤول عسكري، معادلة تجعل "الانتصار" على المجموعات الإرهابية مضاعفًا، باعتبار أنّ ما يُحكى عن تقنيات متطورة يعتمدها الحزب في وجه هذه المجموعات غير دقيق.
"نحن نقاتل بسلاحهم، بطريقتهم، بأسلوبهم، وليس بأعداد أكبر منهم"، يقول القائد الميداني، مشيراً إلى أنّ الأسلوب القتالي المستخدم هو أسلوب المشاة أولاً وأخيرًا.
باختصار، فإنّ القتال يحصل على طريقة رَجلٍ برَجل، وهنا "المفارقة" التي تستوجب أكثر من قراءة!
تصوير فوتوغرافي محمد سلمان (الألبوم الكامل هنا)
تصوير تلفزيوني علاء كنعان