أسئلة هامة وكبيرة تطرح على خريطة مشهد الميدان، خصوصاً في مستواه العسكري، في ظلّ جغرافيا غير مستقرة على مساحات واسعة من الوطن السوري، وهي أسئلة طالما طُرحت بطريقة أو بأخرى، كان أوّلها حول حقيقة السيطرة على أجزاء من جغرافيا الوطن، والتي كانت تؤكدّها جهات العدوان نفسها، إذ أنها كانت تتحدث عن مدن وقرى وبلدات على أنها قد «حُرّرت»، وهي مفردة طالما استعملت من قبل هذه الأطراف، إشارة إلى أنّها كانت «محتلة» من طرف الدولة، ونعني بها الدولة السورية، في محاولة من هذه الأطراف إعطاء الشرعية لما تقوم به تلك المجموعات المسلحة التي كانت تعمل إسقاط الدولة وتفتيتها.
نعتقد أنّ الدولة السورية، وقيادتها تحديداً، نزعت نزوعاً هاماً في مثل هذه المواجهات، إذ أنّها اعتمدت استراتيجية غير تقليدية، لجهة الحفاظ على الجغرافيا والسيطرة عليها. فهي كانت مدركة إلى حدّ بعيد طبيعة العدوان وأهدافه، وكانت مدركة في شكل كامل استراتيجية العدوان التي اتبعها، والأهداف التي وضعت لأدواته على الأرض، حيث كان مطلوباً من هذه الأدوات – ونعني بها المجموعات المسلحة، ابتداء من «الجيش الحرّ» وليس انتهاء بـ «داعش» ومشتقاته – التضييق على الدولة من خلال السيطرة على الجغرافيا، ثم العمل على تبريد هذه الجغرافيا واستغلالها سياسياً، من خلال إقامة الكيان البديل للدولة عليها، وهو سيناريو طالما استعمل في العدوان على ليبيا.
معروف في بلدان العالم ودوله أنّ الجيوش لهذه البلدان والدول لا يمكنها أن تكون منتشرة على كامل مساحة الدولة أو جغرافيتها، وإنما هي متواجدة في بعض هذه المساحات، خصوصاً تلك المساحات التي تؤثر على ما سمّيناه سابقاً: «جغرافيا المجال الحيوي للدولة»، حيث أن هناك معادلة حضور وتوزّع لهذه القوات تتناسب مع طبيعة وأولويات كل دولة، بالتالي فإن العدوان على جغرافيا الدولة، خصوصاً من خلال هذا الشكل الذي اتبع في العدوان على سورية، يحتاج إلى استراتيجية تعامل تسقط الأهداف الرئيسية للعدوان وأدواته.
قلنا بأن الأهداف الأخيرة للعدوان لا تعني السيطرة على الجغرافيا، بمقدار ما كانت هناك أهداف أبعد من ذلك، تتجلّى في السيطرة على الجغرافيا مدخلاً من أجل صرفها سياسياً، بالتالي فإن السيطرة العسكرية لا تعني شيئاً إذ لم يتم إسقاط هذه الجغرافيا أمنيّاً أيضاً، إذ أنّ هناك مثلث علاقة هامة تربط الجغرافيا بالأمن بالسياسة، فالجغرافيا لا يمكن أن تصرف في السياسة إذ لم يتم إسقاطها أمنيّاً، بالتالي فإنّ أيّ سيطرة على الجغرافيا من دون السيطرة عليها أمنيّاً، لا يمكن أن تساوي شيئاً في السياسة، والسياسة هنا تتجلى في العمل على إقامة «كيان» ندّ للدولة السورية وقيادتها.
بمعنى آخر كان مطلوباً من أدوات العدوان أن تسيطر على الجغرافيا من أجل تأمين مساحات مستقرة وآمنة لإقامة كيان ندّ للدولة السورية، وهذا في الحقيقة لا يتطلب فقط السيطرة على الجغرافيا، بمقدار ما يتطلب تأمين الجغرافيا وتبريدها أمنيّاً، من أجل أن تكون أرضاً معقولة لإقامة ندّ الدولة عليها.
على رغم أنّ هناك مساحات واسعة قد أخرجت عن حالة الاستقرار التي كانت تؤمّنها الدولة السورية، إلا أنّ هذه المساحات لم تستطع أطراف العدوان أن تؤمّن لها الاستقرار المطلوب، من أجل صرفها في مكان آخر، أو في عنوان آخر، وهذا كان بفضل الفهم الكبير لطبيعة المعركة والأهداف التي كانت تحاول أطراف العدوان أن تذهب إليها، وبالتالي فإنّ السيطرة العسكرية المباشرة، من قبل القوات المسلحة السورية، على أجزاء من الجغرافيا لم تكن مطلوبة تماماً، طالما أنّ هناك فائض قوة كبيراً لا يمكن صدّه عن كامل هذه الجغرافيا، إذ أننا نعتقد أنّ القيادة السورية فكرت بأن يكون جزء من هذه الجغرافيا في يد أدوات أطراف العدوان، وهي مفيدة في اثنتين هامتين:
الأولى: أنها سوف تقوم بتظهير الوجه الحقيقي لهذه «الثورة»، من خلال علاقتها مع «حاضنة» طالما تمّ إغراؤها بمقولات واسعة وشعارات قُدمت على أنّها موضوعية وحقيقية!.
الثانية: فضح طبيعة هذه المجموعات والأدوات أمام الرأي العام العالمي أيضاً، من خلال هذه «الكيانات» التي سوف تنشئها والتي سوف تسقط مقولات طالما تمّ الاشتغال عليها وتسويقها، من قبل أطراف العدوان ذاتها.
مع الحفاظ على سيطرة أمنية بالغة الأهمية، من خلال إبقاء هذه الجغرافيا تحت ذراع الدولة الناري، وهو المعنى الذي سوف يسقط إمكانية تدخل قوى خارجية، وبخاصة إقليمية منها، من أجل استغلال هذه الجغرافيا تحت عناوين أخرى مختلفة.
بناء على ذلك حافظت القوات المسلحة السورية على «جغرافيا المجال الحيوي للدولة»، كما حافظت مؤسسات الدولة الأخرى، وعلى رأسها الاستخبارات، على الجغرافيا التي انسحبت منها القوات المسلحة، أمنيّاً!!..
إنّ البعض الذي تحدث عن سيطرة على مساحات واسعة من قبل أدوات العدوان كان جاهلاً بطبيعة السيطرة وأبعادها، وكان يظنّ أنّ مجرد خروج القوات المسلحة من مكان معيّن، سوف يساهم ذلك في إسقاط الدولة، ولم ينتبه هؤلاء إلى أنّ جزءاً كبيراً من مشاهد خروج القوات المسلحة، من عديد الأماكن كان يعني سقوط المشروع الذي كانوا يسوّقون له.
نعم، لو لم تأخذ القيادة السورية بهذه النظرية، والتعامل مع مدينة «الرقة» بالشكل الذي تعاملت فيه، لما كان «داعش» اليوم كما هو عليه، وكان يمكن لكثيرين أن يدافعوا عنه على أنّه «ثورة أهل السنة» في العراق وبلاد الشام، وأنّه جزء من «حراك ثوري» يمثل أحلام وتطلعات كثر من السوريين!.
هذا المشهد الذي نجيب عليه لا يتطلب طاقة عسكرية بارعة منضبطة وتماسكاً عسكريّاً هائلاً فقط، وإنما يتطلب أيضاً طاقة استخباراتية فذّة، وقدرة متقدمة على التحكم، ويتطلب أعصاباً باردة وعقولاً ليس باستطاعة التاريخ إلا أن يفرد لها منذ الأمس، صفحات خاصة من صفحات الانتصار والصمود!.