تقول كلّ المعطيات والمؤشرات أنّ معركة القلمون الكبرى حُسِمت إلى حدّ بعيد، وأنّ "النصر" الذي حققه "حزب الله" والجيش السوري فيها "يتحدّث عن نفسه"، وليس بحاجة لـ"إعلان"، تمامًا كما أنّ المعركة "تحدّثت عن نفسها" عندما بدأت، من دون أيّ إعلانٍ رسمي عن ذلك.
مع ذلك، فإنّ قراءة أبعاد وخلفيات هذه المعركة، التي وُصِفت في البداية بـ"المصيرية" و"الاستثنائية" تستوجب الكثير من العناء، هي التي بدا الحديث الإعلامي عنها أكثر "حدة" من مجرياتها العسكرية، بعد أن تهاوت مواقع المسلحين وتحصيناتهم بسرعة البرق واحدة تلو الأخرى، بشكلٍ فاجأ أكثر المتفائلين..
حين بادر المسلحون..
ترافقت معركة القلمون مع الكثير من "الطنّة والرنّة" منذ ما قبل يومها الأول بأشهرٍ طويلة. بداية، رُبِط موعدها بـ"ذوبان الثلج وبيان المرج"، حتى أنّه اصطلح على تسميتها في البداية بـ"معركة الربيع"، باعتبار أنّ قدوم فصل الربيع سيكون أول "إيذانٍ" بها.
تأخرت المعركة عن موعدها بعض الشيء، لكنّه تأخّرٌ كان مدروسًا، تقول مصادر ميدانية مطلعة، مشيرة إلى أنّ نقطة البداية كانت على شكل تحصيناتٍ وتعزيزاتٍ في ما يُعرَف بـ"مثلث الجرود"، أي جرد بريتال وجرد عسال الورد وجرد الطفيل. لكنّها توضح أنّ العملية العسكرية لم تكن قد بدأت هنا في المرحلة الأولى، بل إنّ التحصينات كانت تهدف لإيجاد مواطئ قدم لهذه العملية وتأمين المناطق اللبنانية بالدرجة الأولى.
أما التطور النوعي والفاصل على خط المعركة، فكان بحسب المصادر إنشاء المسلحين لما سُمّي بـ"جيش الفتح"، حيث اعتبروا أنفسهم مبادرين، وأوهموا الجميع أنّ الكرة في ملعبهم، وأنّ موازين القوى لصالحهم، وأنّهم قادرون على فعل شيءٍ على الأرض، وهو ما لم يكن واقعيًا. بهذه الطريقة، ورّط المسلحون أنفسهم في المعركة، كما تقول المصادر، حيث حصل اشتباك بين المسلحين وإحدى النقاط ممّا أدّى لفتح المعركة في مثلث الجرود (جرد بريتال وجرد عسال الورد وجرد الطفيل) في نقطة اسمها قرنة النحلة.
وتوضح المصادر أنّ قوات "حزب الله" والجيش السوري وجدت هنا نفسها مضطرة للتدخل ممّا أدّى لفتح عملية محدودة استمرّت بجرد عسال الورد وجرد الجبة وصولاً لخط مستوى اسمه خط وادي الزعرور، وقد تحقق الهدف بحيث تمّ اختراق المنطقة خلال 24 ساعة، وبدأت عملية التطهير والتنظيف.
... وتمّ "سحق العدو"!
من عملية قرنة النحلة بالتحديد إذًا، رُصِدت "صافرة الانطلاق" الفعلية لمعركة القلمون، بكلّ ما للكلمة من معنى، هي التي يمكن أن تنطبق عليها معادلة "ما قبلها ليس كما بعدها"، علمًا أنّ مرتفع قرنة النحلة يكتسب أهمية استراتيجية أيضًا من حيث الموقع الجغرافي، وهو الذي يعتبر متداخل الحدود بين لبنان وسوريا، وتحدّه من جهة الجنوب بلدة الحصينة المحاذية لبلدة الطفيل في الداخل السوري وهي تقع شرق جرود بريتال.
يشير قائد الهجوم إلى أنّ "حجم العدو" في هذه النقطة كان عبارة عن مجموعتين منتشرتين في مرتفع قرنة النحلة، مشيراً إلى أنّ العدو كان في المرحلة الأولى حاضراً للتعزيز ولديه قدرة، وكان يساند هذه القوة محمولات 23 ملم و14.5 ملم للمسلحين وأسلحة هاون وقبضات موجهة. ولأنّ "حزب الله" يحسب حسابًا لكلّ شيء، ولا يترك مجالاً لـ"المفاجأة" لتباغته من الأمام أو الخلف، كان اللجوء للرصد والتخطيط الدقيقين، لترسو المناورة في النهاية على قوة بحجم أربع مجموعات، اثنان منها في الخط واثنان في الاحتياط، مسنودة بطبيعة الحال بدعم ناري وقاعدة نار كبيرة.
هنا، يروي القائد الميداني للهجوم مجريات المعركة، فيلفت إلى أنه "بعد الاشراف بالرؤية النهارية والليلية على القرنة، تسللت مجموعتا مشاة إلى مرتفع قرنة النحلة في الليل، وعند بزوغ الفجر قامت قواعد النار بدكّ التلة وخطوط تعزيز وإمداد العدو"، ويقول: "بعد دك هذا الموقع قامت قوات المشاة بتثبيت العدو بحجم مجموعة وقامت مجموعة أخرى بالالتفاف عليه من الخلف وحصل الاشتباك على مسافة أمتار".
.. وكرّت المسبحة!
"تمّ سحق العدو وما النصر إلا من عند الله"، يقول قائد الهجوم في الخلاصة عن العملية التي أطلقت عمليًا المعركة، وهي التي حصلت ليلة الخامس من أيار، لتكرّ من بعدها المسبحة وتتهاوى مواقع المسلحين واحدًا تلو الآخر، بحسب المصادر الميدانية المتابعة.
تشير المصادر إلى أنّ التشكيلات التي واجهتها قوات "حزب الله" والجيش السوري في هذه المنطقة عمومًا نوعان، النوع الأول منها يتكوّن من "حبهة النصرة" بشكلٍ كاملٍ، في حين يتألف النوع الثاني من مجموعاتٍ كانت سابقاً في "الجيش الحرّ" إلا أنّها بايعت ما يسمّى بـ"بيعة عمل" لـ"جبهة النصرة"، بحيث باتت إدارتها وتمويلها وكلّ شيء من عند النصرة ويبقى لها حق التسمية فقط مثل "لواء الغرباء"، أو "كتيبة الفاروق"، أو "اعتصموا بحبل الله"، إلى آخره من المسميات، علمًا أنّ "داعش" تتواجد شمال خربة يونين.
لا تؤكد هذه المصادر ولا تنفي وجود تعاونٍ عملي بين الفصائل المسلحة، التي تقاتلت فيما بينها في مرحلة من المراحل، وهي تشير إلى أنّ مثل هذا التعاون لم يُلحَظ إلا بمكان واحد، وذلك أثناء الهجوم على منطقة الجبة وسهلة المعيصرة وسهلة الواطية، حيث رُصِد دخول مجموعات من "داعش" للتعزيز، إلا أنّ قوات "النصرة" انسحبت من المكان قبلهم، وقد تمّ ضربهم. في مطلق الأحوال، تشدّد المصادر على وجود تشابه في مناطق التجميع وخطوط التماس والمواقع الدفاعية ونوعية القتال على مستوى كلّ الفصائل التي قاتلتها وحدات "حزب الله" والجيش السوري، وهو ما لم يعد خافياً على أحد.
التداعيات آتية..
من الواضح أنّ ما قبل معركة القلمون ليس كما بعدها، ومن الواضح أنّ ما تحقق على الأرض حتى اليوم ليس باليسير بأيّ شكلٍ من الأشكال، لدرجةٍ بات البعض يقلّل من شأن المعركة ويعتبرها مجرّد "جولة"، بعد أن كان يرى فيها "الفتح المبين".
ولكن، وكما أنّ المعركة تطلبت تأهّبًا وتخطيطًا دقيقين كانا، كما يقول العارفون، الحافز الأساسي في التقدّم الذي تحقق، فإنّ مواجهة تداعياتها المحتملة تتطلب كذلك الأمر الكثير من اليقظة والتأهّب، مع وضع كلّ السيناريوهات على الطاولة...