روت تدمر في التاريخ العتيق قصّة بطولات لا تنتهي، لا تزال أضواؤها تسطع في زماننا الراهن، وتحيا في الذاكرة الإنسانيّة، وتفتح آفاقها باتجاه التجليات الكبرى. من منّا لا يتذكّر زنوبيا ملكة تدمر، تلك التي اقتبس منها الأخوان رحباني مسرحيتهما ومثلّت فيروز دورها، ونعود إليها رمزًا للبطولة والشهامة والكرامة والإباء، كما كانت بترا في صحراء الأردن. تدمر طريق شرق المتوسّط إلى روما العظيمة، ولا تزال طريقًا إلى الصحراء العربيّة.
هل يمكن للعقل البشريّ أن يقبل تدحرج تدمر بتاريخها وحضارتها العريقة من سياقها العظيم إلى سياق إسلامويّ متشدّد تمثّله "داعش" فتلغي ذاكرة هائلة عمرها آلاف السنين؟ ثمّة ثغرة واضحة وكبرى في مسرى الضمير العالميّ تتسرّب منها مجموعة مفاهيم غريبة عن واقعنا، مبرمجة من عقل شرّير، هو عقل صهيونيّ بامتياز، يشاء (وعلى عينك يا تاجر) إلغاء الذاكرة العربيّة والمشرقيّة، وهذا تخطيط كبير دأب عليه الإسرائيليون خلال احتلال الأميركيّ لبغداد على عهد صدام حسين، فتسلّل من خلال الأميركيين الإسرائيليون إلى قلب متحف بغداد لسلب الذاكرة، الأمر عينه تمّ في متحف نينوى مع فارق بسيط، أنّ الداعشيين قاموا بتحطيم المتحف كما قاموا بتدمير مدينة أثريّة بكاملها في محيط نينوى، ويأتي دور تدمر بآثارها وعظمتها، ليتم طرح سؤال خطير خالٍ من الاصطفاف السياسيّ الدوليّ والعربيّ، إلى أين سوريا، إلى أين المشرق العربيّ برمّته، في ظلّ هذا المخطّط الرّهيب الذي يقضي على الإنسان السوريّ والعراقيّ واللبنانيّ واليمنيّ، بذاكرته وراهنه ومستقبله، وقد قال شارل مالك مرّة بأن التاريخ ضوء المستقبل.
ما يثير الاهتمام في حقيقة الأمور، أنّ سقوط تدمر وقبلها نينوى والموصل وقرى شمالي نهر الخابور وجسر الشغور وإدلب، يتمّ في ظل خطاب أميركيّ يؤكّد نفاقه الكبير يومًا فيومًا، من حيث تشديده اللفظيّ على مسألة القضاء على الإرهاب بمفهوم دولي واضح، وفي الوقت عينه يظهر العكس في تسهيل مهمة "داعش" بالسيطرة على تلك المواقع التي تعتبر استراتيجيّة بالعمق الجغرافيّ والأمنيّ، ووجوديّة بالحقيقة الإنسانيّة المتكوّنة من حضارة عمرها آلاف السنين. وما البيان الصّادر عن البيت الأبيض سوى تبيان واضح لنفاق مفتعل بالقول بأن سقوط تدمر يعتبر نكسة للذين يقاتلون "داعش". يقف مراقب سياسيّ-استراتيجيّ أمام مشهد سقوط تدمر متسائلاً: "هل يصدّق أحد أنّ الأميركيين لا يملكون القدرة عبر الأقمار الاصطناعيّة وفي رؤيتهم الواقعيّة بالقضاء على الإرهاب سواء أخذ لبوسًا داعشيًّا أو غيره؟ ولو كانوا صادقين في ما يرمون إليه، ضمن عنوان القضاء على الإرهاب، فلماذا لم يتحركوا بطائراتهم ويقصفوا تلك الجحافل المقتحمة لتدمر وسواها؟"
وبتوضيح أكثر، يتراءى شيئًا فشيئًا، بأنّ ارتفاع منسوب الصراع في الإقليم الملتهب، يؤكّد نتيجة واحدة بأنّ سوريا لن تبقى على ما هي عليه. وبوضوح تام، إنّ انفجار العراق وبلوغه نحو حقبة تقسيميّة كانت المقدّمة الفعليّة لتقسيم المنطقة، وبخاصّة سوريا. وتظهر خلف الأفق رؤى واضحة تحاول الجمع والدمج بين سقوط الرمادي وسقوط تدمر في مألفة واحدة. لكنّ لسقوط تدمر أثرًا أبعد مدى من سقوط بعض المواقع، ذلك أنّها تقع في الوسط السوريّ، وهي قريبة من حمص، وطريق دمشق باتجاه الحدود السوريّة-العراقيّة، ويخشى كثيرون من بعد سقوطها من التفاف الداعشيين على حمص من جديد، وبخاصّة على جبال القلمون والحدود اللبنانيّة. لا يحجب انتصار الجيش السوريّ و"حزب الله" فوق الجبال تلك الخطورة التي يمثلها احتلال تدمر والمخاوف المتولّدة منها. وما يرى في واقعيّة الأمور بأنّ المخطّط الإسلامويّ التكفيريّ الذي يدعمه الأتراك والسعوديون والإسرائيليون على السواء، له بعد استراتيجي كبير نابع من تخطيط واضح، يحاول ربط منطقة الرقة بالداخل العراقي والداخل السوريّ في محتوى واحد وإمارة واحدة، وتاليًا، ربط الحدود السوريّة-العراقيّة، بالحدود السوريّة-التركيّة، فيتماهى سقوط جسر الشغور وإدلب القريبة من حماه وحلب واللاذقيّة في الساحل، بسقوط تدمر... هناك انقضاض واضح على الخصوصيّة السوريّة، كما تمّ الانقضاض على الخصوصيّة العراقيّة، وتتمّ محاولة الانقضاض أيضًا على الخصوصيّة اليمنية في مسلسل واحد، ويتمّ توظيفه في إطار جعل "داعش" ومن يدعمها من الخارج جزءًا من الحلّ انطلاقًا من اعتراف من يدعون لحلّ سياسيّ في اليمن والعراق وسوريا بموجوديّة "داعش" و"النصرة" والدول المورّدة لهما، وجذوريّة تلك الموجوديّة، يكفي ذلك لتبيان الخطر، واكتمال عناصره بالمعنى الوجوديّ بتدمير الحضارات، أي محق الذاكرة التاريخيّة للمواطن السوريّ والعراقيّ واليمنيّ.
القضيّة عميقة ومعقّدة، وهي من دون شكّ تهدّد تكوين المشرق العربيّ برمتّه، وكيانيّته المسيحيّة-الإسلاميّة. ويعتبر محلل دقيق في هذا الخصوص، بأنّ معركة القلمون وبحسب مصدر مسؤول، يجب أن تكون الحافز السريع ليس لإنهاء وجود "داعش" في جرود عرسال فقط، بل لاستكمال عناصر الالتفاف الدائريّ حول المناطق التي سقطت لأسباب شتى في قبضة "داعش" و"جبهة النصرة"، في ظلّ فقدان بنود الحلّ السياسيّ على الأرض. ويعتقد هذا المصدر بأنّ قوات "حزب الله" إلى جانب الجيش السوريّ والتي انتصرت في جرود القلمون تملك القدرة قبل تدمير الآثار في تدمر على استعادتها وفق خطّة ممنهجة تجهض السعي التركيّ بإيجاد مناطق واصلة وعازلة يستهلكها الأتراك في سبيل فرض شروطهم في أوان التسوية أو الحل السياسيّ.
وفي السياق عينه، دعا المصدر، إلى عدم تبسيط سقوط تدمر وما يظهره من تأثيرات وتداعيات في العمق السوريّ وامتدادًا نحو العراق ولبنان. فالسعي الاستراتيجي عند التكفيريين لربط الساحل بالداخل، ربط البحر بالنهر، (نهر دجلة والفرات). هذا ظهر جليًّا خلال معارك طرابلس وعرسال، ومحاولة ربط البقاع بالشمال، وقد تزامنت مع معارك القلمون وقلعة الحصن في وادي النصارى. وباعتقاد هذا المصدر، إن المخطّط بجوهره لا يزال ساري المفعول في كلّ المعارك الدائرة، والرابطة بين الحدود كلّها من لبنان إلى العراق وتركيا. ويعتقد بأن المحادثات بين إيران وأميركا لم تنته إلى اتفاق في فحوى الدور الإيرانيّ ومحتواه، في عمليّة بسط أوراق القوة والضعف عند الفريقين، وهذا ما يترجم على الأرض العراقية والسورية استهلاكًا لورقتي "داعش" و"النصرة" كحالة ضغط على الإيرانيين. وينصح المصدر المذكور باستكمال عملية الهجوم المعاكس. فالصراع استراتيجيّ بكلّ ما للكلمة من معنى، ومشروع "داعش" التمدّد قدر الإمكان، لفرض إمارتها، من العراق إلى سوريا فلبنان.
سقطت تدمر... سوريا إلى أين؟ أو أين هي سوريا اليوم من عملية السقوط الممنهجة، من جسر الشغور وإدلب والقامشلي والرقّة إلى تدمر الآن؟ سوريا تحت خطر شديد يتمايل ما بين التقسيم أو الزوال. ولينتبه اللبنانيون، إذا ما تقسّمت سوريا أو سقطت، فلبنان على الطريق في ظلّ قنابل موقوتة مزروعة في الداخل وهي مهيّأة في أيّ لحظة للانفجار.