ان الامن القومي لا يعني على الاطلاق "الامن" فقط، فهذه الفكرة السائدة لا تعبر عن حقيقة هذا المفهوم الفضفاض، فالامن القومي يجمع السياسة والاقتصاد والاجتماع والنظام التشغيلي، ومن أجل البحث في الامن القومي اللبناني لا بد من التطرق لكل هذه القطاعات، لنصل في الختام الى تكوين نظرة عامة عن واقعالامن القومي وبالتالي واقع لبنان.
يتعلق الامن القومي في لبنان حسب المدير التنفيذي لملتقى التأثير المدني زياد الصائغ بسيادة القانون واحترام الدستور وبالادارة السليمة للموارد الطبيعية والبشرية اي الثروات الوطنية او الحوكمة الرشيدة، كذلك يتعلق بسياسات اقتصادية واجتماعية مستدامة، مشيرا الى ان في الدول المتقدمة هناك مجالس للامن القومي تضم موظفين متخصصين يتعاطون بالمياه والكهرباء والنفط والسياسة المالية وسياسات العمل وغيرها، بينما في لبنان فلا وجود لأي خطة استراتيجية يجري العمل على اساسها.
واضاف الصائغ في حديث لـ"النشرة": "بالنسبة لنا في ملتقى التأثير المدني فإن لبنان بني عام 1943 ميثاقا في هشاشة ثوابت تقع تحت مظلة الامن القومي، وبالتالي كيف يمكن ان يدار البلد بظل عدم وجود رؤية استراتيجية واضحة وثوابت مستدامة للعمل؟".
الاستمرار بالنهج الحالي انتحار..
تحدث الصائغ بداية عن الخلل في النظام التشغيلي في لبنان، كذلك عن غياب سياسات اقتصادية واجتماعية واضحة يتم العمل على اساسها، متطرقا للشق السياسي الذي يعاني حسب الصائغ الأمرّين في ايامنا هذه مما يجعل الاستمرار بالنهج الحالي انتحار، يودي بالبلد الى الخراب. وقال: "كيف يدار البلد بوجود فراغ في رئاسة الجمهورية ومجلس نيابي ممدد له، وحكومة معطلة وشغور بالقطاع العام بنسبة 22 بالمئة؟"، سائلا عن القوانين المهمة والتي لم تبصر النور بعد مثل الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص واللامركزية الادارية وقانون الانتخاب و غيرها . وقال: "لا يوجد اي سياسات يسير عليها المسؤولون ومثالا على هذا الامر فإن كل وزير يلغي عمل ما سبقه في الوزارة ويبدأ عملا خاصا به".
واشار الصائغ الى ان ايمان ملتقى التأثير المدني بالشراكات البناءة، جعله ينظم ندوة حوارية حول "الامن القومي في لبنان"، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الجيش اللبناني ، لافتا الى ان الملتقى اراد القول من خلال الندوة " تعالوا لنتفق على مفاهيم السياسة العامة في منظومة الامن القومي وننتقل من حالة ردة الفعل الى حالة الفعل الايجابي"، مشددا على ان "المطلوب هو شراكة مع الجميع، وخلق دينامية تفكير مختلفة، تدفع باتجاه عقد وطني جامع ومنتج، فنذهب للمساحات المشتركة ونذهب للعمل من اجل الحفاط على بلدنا".
وقال: "نحن لا ننطلق من افتراض النوايا السيئة واللبنانيين يئسوا بسبب التجارب ولكن ما نريده هو منهجية عمل مختلفة، نحن نفترض اننا طرحنا محاولة رؤية جديدة وأيضا استدعينا منهجية عمل جديدة ونحن بحاجة للقليل من الوقت مع الثقة التي نجدها في من هم حولنا كي نصل الى مبادرات ايجابية"، واهمها إنشاء مجلس للأمن القومي على غرار الدول المتقدمة مشيرا إلى ان "كل القوى السياسية تفاعلت بشكل ايجابي وبدأنا مرحلة الحوار مع إلادارات الرسمية، وسوف نطلق العمل مع الهيئات الاقتصادية والإعلام القطاع الهام جدا".
لا اقتصاد يعني لا أمن
المكون الثاني من مكونات الامن القومي هو الشق الاقتصادي، واهمية الاقتصاد بالنسبة لأي بلد هي امر غني عن التعريف، فالبلد السليم بالاقتصاد السليم، وما يجمع اوروبا اليوم هو اقتصادها حتما وليس القوميات المتناحرة التي تعيش فيها، فأين الاقتصاد اللبناني؟. ومن هنا رأى عضو مجلس امناء وادارة ملتقى التأثير المدني الدكتور منير يحيى، انه يمكن حصر ابعاد الاقتصاد اللبناني في اتجاهات ثلاثة هي المكونات (الزراعة والصناعة مثلا)، وهذه تتسم بفقدان كامل للبرامج الاقتصادية حيث ان الزراعة تشكل 4.6 بالمئة فقط من الناتج المحلي الاجمالي، بينما تشكل الصناعة نحو 11 بالمئة منه. أما الاتجاه الثاني بحسب يحيى فهو "البنى التحتية" وهنا حدث ولا حرج فالكهرباء سبب عجزنا الاول اذ انها تشكل 52 بالمئة من العجز السنوي، اما الاتجاه الثالث والاخير فهو البعد المالي والمصرفي.
ويضيف يحيى في حديث لـ"النشرة": "يتميز الاقتصاد اللبناني بكونه اقتصاد استهلاكي فالاستيراد فيه يتجاوز 21 مليار دولار اميركي بينما تختصر صادراته بـ 4 مليارات دولار، مع الاشارة الى ان 90 بالمئة من استهلاك اللبناني مستورد". ويشير الى ان هذه الارقام تؤكد ان لبنان يسير نحو الهاوية في ظل اقتصاد وبيئة عمل غير شفافة حيث ان لبنان هو في الربع الاخير من الدول الاكثر فسادا في العالم. ويقارن يحيى بين الاقتصاد اللبناني واقتصاد العدو الاسرائيلي، مشيرا الى ان الزراعة المحلية في اسرائيل تؤمن 90 بالمئة من حاجات الاستهلاك المحلي بعكس لبنان.
واخيرا يطلق د.يحيى معادلة تقول: "لا اقتصاد يعني لا امن، ولا أمن يعني لا اقتصاد". هذه المعادلة بشقها الثاني معروفة بينما في شقها الاول يقول يحيى: "فيما لو حصلت معجزة واتفق السياسيون في لبنان على انتخاب رئيس للجمهورية وعاش لبنان مرحلة من الاستقرار السياسي، فالى اين سيؤدي ذلك؟"، مشيرا الى ان الاستقرار السياسي سيؤدي لانفجار اقتصادي واجتماعي فالمواطنون يبررون وضعهم الحالي بالظروف الصعبة التي يعيشها لبنان، وبالتالي مع تحسن الظروف ستؤدي البطالة المقنعة الى الانفجار خصوصا ان نسبة الهجرة تتراجع واقتصادنا يسير الى الخلف"، لافتا الى ان انعدام الاقتصاد سيؤدي الى مشاكل وازمات وانفجارات اجتماعية وبالتالي الى غياب الامن".
كارثة حقيقية..
أما بالنسبة لشق السياسات الاجتماعية، فإن 25 بالمئة من الشعب اللبناني يعيش على خط الفقر، و8 بالمئة منهم تحت هذا الخط، كذلك يعاني اكثر من نصف اللبنانيين من غياب اي نوع من انواع الضمان الصحي الاجتماعي، وهذا ما يراه عضو مجلس امناء و ادارة ملتقى التأثير المدني أنطوان واكيم كارثة حقيقية. ويضيف: " هل سمعنا يوما في خطاب اي سياسي اشارة الى الضمان او الى مشروع اجتماعي"، معتبرا ان "لا سياسة اجتماعية بلبنان، رغم اننا كنا البلد الاول بالعالم العربي الذي انتهج سياسة صحية وضمان صحي ولكننا لم نطور هذا النظام حتى يومنا هذا".
واشار واكيم في هذا السياق الى وجود مشروع ضمان صحي وتقاعدي متكامل في ادراج مجلس النواب دون ان يلتفت اليه احد، خصوصا ان النواب غير مهتمون على الاطلاق بهذا الامر لانهم لا يعانون منه اصلا، اذ ان لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي يقدم للنائب وعائلته بعد 12 سنة عمل ضمانا صحيا شاملا مدى الحياة. وقال: "الغريب في لبنان ان المضمون يخسر ضمانه بعد بلوغه عامه 64، اي في الفترة التي يحتاج فيها الضمان".
أما الدكتور كمال حمدان فأشار الى ان 12 الى 15 بالمئة من الذين يخضعون لنظام تقاعد هم العاملون في القطاع العام وفي مؤسسات عامة، بينما 12 بالمئة يستفيدون من نظام الشيخوخة و20 بالمئة لديهم تعويضات نهاية خدمة. وقال: "ان ثلثي العاملين في لبنان غير خاضعين لنظام حماية صحية، و 55 الى 60 بالمئة من القوى العاملة غير خاضعة لا لنظام تقاعد ولا لنظام نهاية خدمة"، مشيرا الى ان هؤلاء يصلون "بأرذل" العمر الى مرحلة يفتقدون فيها الى اي نوع من انواع الضمانات الصحية.
أما فيما يخص ازمة اللاجئين السوريين المنتشرين في لبنان وما تسببه هذه الازمة من مشكلات كبيرة على الصعيد الاجتماعي فيشير واكيم الى ان الاقتصاد الحر في لبنان استوعب حصة كبيرة من العمالة السورية ولكن اخذها على حساب العامل اللبناني"، معتبرا ان الحل لهذا الامر يكون بجعل الضمان الاجتماعي ملزما لكل العاملين في لبنان مهما اختلفت جنسياتهم، فهذا الامر سيجعل صاحب العمل يتكلف على الاجنبي كما اللبناني وبالتالي ستكون اولوية العمل للبناني. من جهته يرى حمدان ان مشكلة النازحين اكبر من اجراء مفاضلة بين جانبها الايجابي والسلبي، معتبرا ان القصة أبعد وهي تطرح اسئلة وجودية حول ماذا بعد؟ من سيرحل منهم ومن سيبقى لشتى الاسباب وما تأثير ذلك على الموزاييك الهش في لبنان؟.
ان كل ما سبق وذكرناه يؤكد على ان المخاطر باتت تهدد لبنان وتحفز التوترات فيه، فالامن القومي ليس مجرد امن عسكري نفتقده اصلا في لبنان، بل هو اساس قيام المجتمع اللبناني. ومن هنا بات لزاما علينا التحرك للحفاظ على فرصة اعادة بناء دولة متماسكة وهذا ما يحاول ملتقى التأثير المدني القيام به.