احد المواضيع الذي كثيرا ما تتناوله الندوات العلمية والمقالات الثقافية هو الغزو الثقافي الذي تقوم به مئات المحطات التلفزيونية الاجنبية التي تبث طوال النهار كل انواع البرامج وبكل اللغات بما فيها اللغة العربية. وتغوص الابحاث العلمية في انعكاس هذه البرامج على اطفالنا وعلى ثقافتنا عموما كونها تسوق قيما ومفاهيم مختلفة عن السائدة عندنا، كما تتهم ابحاث اخرى هذه البرامج بتفكيك اللغة وتراجع المستوى الثقافي للشباب بالاضافة الى التسطيح في المضمون وتسويق الفن الرخيص، وغيرها وغيرها من الاتهامات التي يمكن توجيهها الى هذا الاعلام "الغازي".
وجاءت الازمة المالية الخانقة التي تعصف بوسائل الاعلام اللبنانية منذ سنوات لتضاعف من حجم المشكلة، فتراجع مستوى اداء الاعلام المحلي بحيث لم يعد قادرا على تمويل برامج راقية، لا بل على العكس راح يسوق برامج التسفيه والاثارة لجذب المعلنين، نظرا لحاجة هذا الاعلام الى جذب المشاهدين اللبنانيين لابعادهم عن المحطات الخارجية.
قد نجد اسبابا تخفيفية لهذا الاعلام اللبناني الذي لم يعد له من خيار: اما اعتماد وسائل الجذب هذه واما الموت المحتم اي الاقفال. وهذا الخيار الاخير يعمق الازمة ولا يحلها، نظرا لانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها. لذلك ففي الدول الغربية تعمد السلطة الى دعم وسائل الاعلام الخاصة حفاظا على دورها والمهام الموكلة اليها في المجتمع.
في هذا المشهد المقلق، يأتي وضع "تلفزيون لبنان" او كما يسمى "تلفزيون الدولة"، والذي هو في الحقيقة تلفزيون الشعب، ليزيد الوضع تشاؤما نظرا للتهميش اللاحق به ولتغييبه عن لعب اي دور على الخريطة الاعلامية.
يفترض بهذه المحطة ان تكون الرافعة الحقيقية للاعلام اللبناني اليوم لو قدر لها ان تلعب دورها، فهي قادرة على التمايز بمضامين راقية باتت غائبة عن المحطات اللبنانية، وبسياسة اخبارية عامة وحيادية يتمناها اللبنانيون هربا من متاريس المحطات الاخرى. هذه المحطة يمكنها، من خلال ما تختزن من تاريخ وارشيف وموقع، ان تكون ملتقى العائلات اللبنانية والشباب اللبناني وان تكون من جديد محطة التراث والثقافة والابداع. وان تغييب هذه المحطة يعني تسييب الفضاء اللبناني امام القنوات الاجنبية ذات الامكانات الهائلة، كما يعني القضاء على ذاكرة جماعية للبنانيين.
المؤسف ان السلطة اللبنانية غائبة عن محطتها حتى في ابسط واجباتها. فتلفزيون لبنان لا يحظى بحقه في تعيين مجلس ادارة ينقذه من الحضيض ويستخدم امكاناته الهائلة في معركة الغزو الفضائي الدائرة.
فهل يمكن بعد ان نعتب على المحطات العالمية التي تغرق فضاءنا بكل الافكار والعادات والنزعات والاشاعات اذا كانت سلطتنا تستقيل من مسؤوليتها في ملء هذا الفضاء؟ خطوة الحل الاولى تعيين رئيس مجلس ادارة لتلفزيون لبنان يتولى اعادة الحياة الى هذا المرفق الثقافي ويعيد بعضا من اشعاع لبنان في الداخل والخارج.
* عميد كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية