من يعرف جغرافيا المنطقة جيّداً، ومن يعرف طبيعة الحصار الذي كان مفروضاً على حامية المستشفى الوطني لجسر الشغور، من أعداد للمسلحين والعتاد الذي كان بحوزتهم، والأهداف التي كانت تترتب على هذا الحصار، من أجل الوصول إلى المستشفى، بالتالي الوصول إلى عناصر الحامية، يدرك أكثر طبيعة المعركة التي خاضتها ثلة من الجيش العربي السوري من أجل تحرير عناصر الحامية.
لم تكن الأهداف تتعلق بالوصول إلى عناصر الحامية، بالتالي السيطرة على المستشفى من قبل العناصر المسلحة، وإنما كانت الأهداف أكبر وأعمق، وكان التحدي أوسع وأخطر من ذلك بكثير، خصوصاً بعد كلمة للرئيس بشار الأسد تتعلق بمصير الحامية خلال السادس من أيار عندما وعد وعداً قاطعاً أنّ رفاقاً لعناصر الحامية سوف يصلون إليهم، وسيكونون إلى جانبهم لفك الحصار عنهم.
لم يعد الحصار على المستشفى أمراً عاديّاً أو طبيعيّاً، كون أنّ عناصر أضحت أساسية في المشهد العام للحصار والوصول إلى عناصر الحامية من جهة، وتخليص الحامية وفكّ الحصار عنها وإخراجها من المستشفى من جهة أخرى، حيث كانت المعركة بين هاتين الرئيسيتين، إضافة إلى كون الأمر لم يعد يتعلق بميدان بسيط وجغرافيا محدودة، فقد تجاوز الأمر هذه العناوين، ودخلت عليه مواقف عواصم وعمل استخبارات مركّب وكبير، ومواجهات تعدّت حدود الجغرافيا السورية، وصولاً إلى بعض عواصم دول إقليمية ودولية.
نعم لقد أضحى الصراع في مكان آخر تماماً، فكلام الرئيس الأسد لجهة وعده لحامية المستشفى أنّهم في طريقهم إلى الحرية زاد في تعقيد المشهد، وأضاف عناصر إضافية عميقة من أجل الحيلولة دون تحقيق الوعد الذي أعطاه للحامية وللشعب السوري، إضافة إلى تحدّ كبير أمام العالم بأسره. بالتالي فإن الحيلولة دون فعل ذلك، أو منع ذلك، من قبل أطراف العدوان، سيساهم في إلحاق الهزيمة المعنوية والمادية في وعد الرئيس الأسد الذي سيرتدّ على طبيعة المعركة ذاتها.
لا نعتقد أنّ هذا التحدّي كان عاديّاً أو طبيعيّاً، أو يمكن اعتباره أمراً عسكريّاً بسيطاً، كما أنّه لا يمكن أن يخضع لشيء من الرهان أو المراهنة. فالرئيس بشار الأسد يدرك أكثر من الجميع طبيعة الحاصل ويفهم جيّداً حيثيات المعركة، خصوصاً في الرأس الضيق لجسر الشغور ومحيطها، كما أنّنا نجزم أنّ هذه العبارة وذاك الموقف لم يصدرا منه في شكل عفوي أو ارتجالي، على رغم أنّه كان يرتجل خطابه ارتجالاً، لكنّه كان يوجّه هذا التحدّي في شكل مدروس ومباشر. ونرى أنّ رسالته تلك كانت الرسالة الأهم في صباح السادس من أيّار في خطابه في مدارس أبناء الشهداء، وهي الرسالة التي تحدّى فيها جميع خصومه وأعدائه، لجهة تأكيده أنّ الحامية ستخرج من هذا الحصار، وهذا قرار منه فيها، وليس باستطاعة أعدائه أن يفعلوا شيئاً لمنع ذلك.
يبدو مثل هذا الكلام للوهلة الأولى عاديّاً وطبيعيّاً، غير أنّ التوقف عنده طويلاً والتدقيق والتحقيق فيه جيداً، يوصل صاحبه إلى حيثيات بعيدة وهامة وعميقة جداً، كون الرئيس الأسد لم يكن يريد أن يرفع معنويات من خلال هذا الكلام، كما أنّه لم يكن يريد أن يوصل رسالة إلى عناصر الحامية للصمود أو الثبات. الرسالة كانت واضحة وجليّة، إنّها رسالة تحدّ إلى من يقفون وراء هذا الحصار من جهات وأطراف إقليمية ودولية، وهو نوع جديد من أنواع الفعل المقرون بالإصرار الكبير، والثقة القائمة على عناصر قوّة كاملة.
إنّ العملية غير الطبيعية التي وفّرت عملية انسحاب هذا الكمّ الكبير من عناصر الحامية وجرحاهم، لا يمكنها إلا أن تؤكّد أنّ الأمور لم تكن عادية أو طبيعية، لجهة التنسيق العالي بين جهات رئيسية في جسد القوات المسلحة، على مستوى سلاح الجو والمدفعية والصواريخ، وعلى مستوى شبكة اتصالات وفّرت بنية تحتية متقدمة جدّاً للإبقاء على حرارة واحدة للجهات المشاركة في التحرير، حيث كان واضحاً جدّاً هذا الامتلاك المطلق للميدان، وهذا التحييد الكبير لمئات العناصر التي كانت تحاصر المستشفى، وكانت تمتلك سلاحاً هاماً كان قادراً على كسر التوازن في شكل كبير مع سلاح عناصر الحامية.
لا يمكن أن توضع هذه العملية إلا تحت عنوان العمليات المعقدّة والتي تتطلب إمكانيات هائلة وكبيرة في أهم عناوين العمليات العسكرية الميدانية، تلك الإمكانيات المادية والمعنوية، كون فكّ الحصار كان شبه مستحيل في ظلّ حصار كان مكتمل الشروط تماماً.
لا يمكن للكتلة النارية وحدها أن تؤمن ما تمّ تأمينه، ولا يمكن لانسجام أكثر من سلاح وأكثر من جهة ميدانية أيضاً أن تؤمن ما تمّ تأمينه، في ظل الظروف التي وصفناها، إلا إذا كان هذا الجيش جيشاً فذّاً وعبقريّاً، وكان جيشاً قادراً على الفعل وحاضراً في شكل جيد وكبير، حيث أن العملية كانت تتطلب قدرة غير طبيعية حتى تتم، وهذه القدرة غير الطبيعية لا يمكن أن تتوافر في جيوش أصابها الوهن أو نال منها التعب. لهذا لا يمكن أن نقول إلا أن القوات المسلحة التي نفّذت هذه المهمة كانت في أفضل حالاتها على كلّ الصعد والمستويات.