الواقع لا يُدار من خارجه، ولا يمكن للماضي أن يسحب الحاضر إليه، أو أن يأسر المستقبل، خصوصاً عندما تكون حركة التاريخ خاضعة لصيرورة متسارعة جدّاً، وعندما تكون أدوات العصر واللحظة الراهنة متواجدة ومؤثرة بقوة كبيرة، في صنع الحاضر واستشراف المستقبل…
هذه حقائق موضوعية ومعادلات منطقية لا يمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها، وإنْ حصل ذلك، نتيجة مصالح معينة وأهداف مختلفة، فإنّ ناتج هذا العناد غير الموضوعي لهذه الحقائق سيكون كارثيّاً جدّاً على من يفعل ذلك.
إنّ «مملكة آل سعود» وفق المعادلة المعرفية السابقة، إنما هي مملكة تُحكم من خارج السياق التاريخي المنطقي، من خلال شكل سياسي ماضوي محكوم بمعادلات وجود خارج مفهوم الوجود العصري واللحظي لمعنى الدولة، حيث أنّ استحضاراً غير منطقيّ لمعنى الدولة في ظلّ حضور غير موضوعي لأسباب وجود الدولة، يتمّ الاشتغال عليه، وتصديره داخلاً وخارجاً، وذلك بفضل سلطة مالية غير خاضعة لخريطة أمان يمكنها أن تساهم إيجاباً في توطين مفهوم الدولة، وإخضاع هذا المفهوم لصيرورة طبيعية تحاكي صعود المفهوم ذاته توازياً مع ما يحصل على هذا المستوى في مواقع وأماكن، قريبة أو بعيدة، من محيط هذه «المملكة»…
إنّ العائلة المالكة والحاكمة في «مملكة آل سعود» تأتي من خارج سياق اللحظة الراهنة، على مستويات عدّة، أهمّها المعرفي بكلّ أبعاده، وهو الذي يبقي على هذه العائلة بعيدة عن سياقات صيرورة اللحظة ذاتها، كون أنّ إحدى أهمّ الأسباب للحفاظ على العائلة السكون إلى حالة ماضوية، وإلا فإنها سوف تفقد شرعيتها وبالتالي وجودها، الأمر الذي يحتّم عليها أن تبقى ساكنة في الماضي بكلّ أبعاده، وأن تبقى أيضاً مشدودة إلى هذا الماضي غير المنطقي وغير الموضوعي، كي تبقى تستمدّ منه لغة حقيقية لبقائها بالشكل الذي عليه.
إنّ إحدى أهمّ الأسباب الرئيسية لبقاء منظومة العائلة، بالتالي بقاء دولة العائلة، أو مملكتها، هي في الآن ذاته إحدى أهمّ أسباب فنائها، لأنّ العائلة تستمدّ شرعيتها من نمط تاريخي أسري لا يمكن تجاوزه، كونه لا يمتلك إمكانية حقيقية أو طاقة داخلية دافعة لإمكانية هذا التجاوز، لأنّ أيّ تجاوز لهذا النمط الذي يسكن الماضي سوف يساهم في انهيار «دولة العائلة»!
من هنا يبدو واضحاً لماذا لم تستطع «مملكة العائلة» أن تحاكي جملة تطورات حصلت على مستوى مفهوم الدولة الحديثة، كون أنّ النمط الذي تستمدّ «مملكة العائلة» منه شرعيتها ووجودها لا يمنحها إمكانية توفر طاقة الدولة الحية، أو الدولة القادرة على الخضوع لمفهوم صيرورة الدولة الحية، باعتبار أنّ الدولة الحية تمتلك خصائص عدّة تمكّنها من امتلاك عناصر الاستمرار الموضوعية والطبيعية، أمّا بالنسبة إلى «مملكة آل سعود» فإنّ إمكانية امتلاكها لعناصر الدولة الحية تتناقض مع العناصر الرئيسية لاستمراريتها، بالتالي فإنّ التراكم التاريخي الحاصل على مفهوم الدولة الحديثة والمعاصرة في ظل الحاجة الملحاحة لبقاء «مملكة آل سعود»، سوف يخرج هذه المملكة في لحظة معينة خارج سياق حركة التاريخ، أو خارج السياق الطبيعي والموضوعي لعدم ثبات اللحظة التي تمر بها الدولة الحديثة.
كما أنّ النمط العائلي التاريخي الذي يمنح «المملكة» بقاءها، يتناقض مع تطور حتى «دولة العائلة»، فالنمط مثلاً لا يتحمّل إمكانية تجاوز المشهد التاريخي للعائلة، أيّ لا يمكنه التقدّم وتجاوز اللحظة الماضوية للعائلة، بالتالي فإنّ الدولة بهذا المعنى دولة قائمة على معنى تاريخي ماضوي، لا يمكن لفعل اللحظة الراهنة مهما كان قويّاً وفاعلاً أن يتجاوز أو أن يكسر النمط الماضوي للعائلة وإلا سقطت دولة العائلة!
من هنا يمكننا القول أنّنا عندما نتحدث عن «مملكة آل سعود» لا نتحدّث عن مملكة قائمة وحاضرة الآن، بمقدار ما هي مملكة تسكن نمطاً تاريخيّاً مسكوناً في تفاصيل الماضي، ولا يمكن تجاوزه بأيّ شكل من الأشكال، إلا في اللحظة التي يتمّ فيها ومن خلالها تجاوز «المملكة» ذاتها، كما أنّه لا يتمّ التعامل الآن مع هذه المملكة على أساس أنّها قائمة وحاضرة بمقدار ما يتمّ التعامل معها على أساس أنّها «مملكة بائدة»، مملكة من الماضي، غير أنّ هذه المملكة قائمة الآن نتيجة حاجة البعض لها، وليس نتيجة حاجة من فيها لها، صحيح أنّ مصلحة عائلة «آل سعود» مرتبطة في هذه المملكة، لكنّ هذه الحاجة ليست كافية لهذا البقاء، وإنما مصلحة وحاجة قوى ودول أخرى لها هي التي أمّنت استمرارية هذا البقاء!
إذن… بقاؤها ووجودها مستمدّان من حاجة الآخرين لها، ماديّاً ومعنويّاً، فعلى المستوى المادي يمكننا الإحاطة جيّداً بالدور الوظيفي الذي يؤدّيه هذا الشكل من الممالك البائدة، لجهة قوى ودول أخرى لها، لكن ما هي الحاجة المعنوية لهذا الشكل البائد من الممالك؟ وهو سؤال هامّ، خصوصاً عندما ندرك أنّ هذا الشكل السياسي الذي يحافظ عليه من هو بحاجة ماسة له، أضحى رئيسيّاً من أجل الإبقاء عليه في تعبئة الفراغ السياسي المحتمل في الشكل الذي يمكن أن يتقدّم كي يملأ المجال الحيوي الذي يملؤه شكل «المملكة البائدة» في ظلّ احتمال سقوطها أو انعدام وجودها.
إنّ هذه الممالك البائدة بهذا المعنى هي حاجة سياسية أساسية، ليس لمن يقيم فيها، أو يكون من رعاياها، لأنّ هؤلاء يشعرون بالعجز المطلق لجهة إمكانية أن يتجاوزوا مفهوم الرقم في قائمة الرعية، وإنما هي حاجة سياسية تؤدّي دوراً وظيفيّاً يشابه الدور الذي تلعبه محطات القطارات والموانئ والمستوصفات والمستشفيات ودورات المياه… على المستوى الخدمي، فهذه جميعها لا تؤدّي دورها لمن يسكنها أو يقيم فيها، بمقدار ما تؤدّي دورها لمن يحتاجها، كذلك هي الممالك البائدة!
بقي واحدة لا بدّ من الانتباه لها، وهي أنّ الإعلام من الصحف والإذاعات والفضائيات ومواقع الانترنت والمال الذي يقف وراءها جميعها، لا يمكنه أن يفيد إلا في إخفاء شروط حاجة الآخرين لها، وهو كلّه لا يستطيع أن يفعل شيئاً أمام هذه الحقيقة الموضوعية، لأنّ ورقة التوت لا تستطيع أن تستر سوءة خنزير يحاول أن يتصدّر شرفة التاريخ!