صعب على صديق ان يقول في صديقه قولاً حلالاً. وإذا كان الكلام في حياته أمراً عسيراً فيمسي بعد فراقه شبه مستحيل ولكنكم أردتم شهادة اعتبرتم انها علي واجب. هل المحبة تجعل الكلام عسيراً؟ غير انكم رغبتم في ان اتخطى العسر لاحتسابكم اني قادر على ان أقول الحق.
قبل أن يدرك الرجل العشرين وأنا كنت قد جاوزتها بقليل عرفت انه غير عادي وانك ولو فتياً ينبغي عليك ان تقاربه بوقار. معنى ذلك على ما أرجو، ان أكون صادقاً وألا يكون في المودة مبالغة. إذا قلت ذكرى يفهم انك تجاوزت الوجه. انى لي ذلك وغسان وجه لست مستقلاً عنه واحتسابي اننا جئنا إلى الحق مترافقين قبل ان ندرك العشرين.
صعب الكلام عن موت بقي عندك مراً ولكن الأيام تنقضي وعليك ان تستبقي حلوها حتى لا تموت أنت. أظن اني احتفظت بشيء من الهدوء في الكلام عن هذا العزيز لأتمكن من الحق. غير انه ذهب. صعوبتي في ان الرجل كان عظيم الخلابة وان الخلابة تعرقل تعبيري. وما زاد في صعوبتي اني عرفت غسانا في احتدام محبتي للمسيح وكان لا يزال في المسيح فتيا. وأظن ان فتوته هذه بقيت في ذهني وقلبي ولست مستعدا لبرودة فيّ أراه عليها. وأنا عارف بأني أموت قبل غسان لكوني أسنّ غير ان ربكم يرتب الأعمار.
هل مشكلتي مع سن غسان لأنه أفتى وان لم يكن بكثير؟ نمضي، كلنا يمضي ويجمع الله وجوهنا في الرحمة اليوم وغدا حتى تزول السماء والأرض. ثلاث سنوات كثيرة وبعض الأحبة استدعاهم ربهم ورقدوا في الرحمة. ليس لي مكان واحد مع غسان ولكن متى ألقاه؟
كل ما مضى ذكرى. إلى متى اللقاء؟ ثلاث سنوات كانت كثيرة وكثيفة ولكنا جميعا إلى موت ونلتقي فقط في رحمة ربك.
بعض من فرحي اني التقيت غساناً وهو دون العشرين وكان يتفتح للإيمان بعقله بعد أن شاهده في قلبه في الفتوة. وأظن انه على نضج هذا العقل بقي على رؤية ربه في شباب ظل عليه. ما كان يذهلني في انه حافظ على إيمانه وأدركه إدراكًا أكبر لأني أعرف مصدره في العائلة وفيها مصدره قلب أمه ولكني أعرف أيضًا ان بعضًا منه كان يتضح له في الجامعة وان شيئا من عمقه كان يجيئه من رفاق له. إيمانه في كنيسته التي عرفها بخاصة من أمه مع اعتقادي ان أباه كان في حقيقته مؤمنا.
كنا في مطالع الأربعينات شبانا طلابا في بيروت نصلي في دير البلمند وغسان معنا ومرة ترك إليه ان يؤم الصلاة فسمعته لا يتقيد بالصلوات التي بين يديه ولكنه يؤلف وكنا نتعجب ان شابًا غير مشهور بالتزامه الكنسي كان يقول كلمات إلهية غير مدونة في الكتاب الذي معه. الأرثوذكس يحبون الصلاة المكتوبة ولكنه لم يتقيد بها ولم يخرج عنها. كيف كان معنا ولم يكن منا؟ ربما كان سره عندي كما كنت أراه آنذاك في بدء معرفتي به انه كان من العصر ومع ذلك ما كان من قراء كتبنا. هكذا تكون الأشياء ان آمنت بأن الرب حر ان يتجاوز ما كتب وما استقرأ وانك تأتي إليه منه دون ان تعبر الكتب.
غسان تويني كان خلقا جديدا من حيث انك لا تعرفه من الكتب ولا مما قيل عنه. هو من أولئك الناس الذين يجب ان تحبهم لتفهمهم. هذا طبعا يعرقل الذين يهتدون بالعقل وحده. ولكن نحن المؤمنين لنا وسائل أخرى للفهم.
عبر غسان تويني هذا الوجود حراً من كل المعوقات مرتبطا بالرب أكثر مما يظن بعضهم ولكنه خفر ولا يتلفظ بالإلهيات كثيرا على طريقة الأتقياء.
ذهب غسان وأنا عرفت إيمانه. ليس الذين يمارسون قليلا قليلي الإيمان بالضرورة. المؤمن يعرف عند الملمات. وغسان رجل الأوجاع كما يقول الكتاب عن السيد. وأعرف انه كان لا يقرأني وأنا لم أكتب عنه كثيرًا. الصداقة كانت تمنعني عن ذلك.
ذهب غسان ونحن حافظوه وحفظة لتراثه وأنا احفظه كما كان عندما كنا نجتمع في حضرة أمه أي عندما كان قلب كل واحد يتكلم مع اننا كنا تعلمنا شيئا من العقل. كان يؤمن بشارل مالك وتتلمذ عليه. كنت على مودة مع الدكتور مالك ولكني تتلمذت في أماكن أخرى.
ذهب غسان وإذا صح التعبير أقول إن هذا كان عندي مؤلمًا لا من ناحية عاطفية فحسب ولكن من حيث اننا تلاقينا روحيا في انضمامنا الواحد العميق إلى كنيستنا قبل ان تكون معروفة عند الخاصة من المفكرين. الموت صعب أيضًا عند الذين يحسون انهم واحد في الفكر وليس فقط في العاطفة. مشكلتي مع بعض الذين ذهبوا عنا ليست في انهم تواروا ولكن في اننا غير قادرين اليوم على التخاطب. المواجهة في هذه الدنيا أمر طيب. تعزيتي في غسان كثيرة الوجوه ولكن واحدا منها انه إذا اصغى وإذا تكلم ترى نفسك مع عقل وقلب.