فجّر الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله هلعاً شديداً في الجبهة الشمالية الإسرائيلية، حينما ردّ على تصريح أركانه حول تهجير مليون ونصف لبناني من الجنوب بتهجير ملايين المستوطنين. وهذا التغالب الخطابي يدخل في إطار لعبة الاختبار وردة الفعل. فالتهديد الإسرائيلي كان اختباراً لـ"حزب الله" غير مألوف بتاتاً من حيث السقف المعياري للطرح، فجاءت ردة فعل المقاومة متجاوزة لكل سقف معياري أساساً، بما يتناسب مع استراتيجيتها التجاوزية الهادفة إلى تجاوز كل نقطة تضعها إسرائيل لتثبّت فيها معادلة معينة. لكن هذه المرة كانت المحاولة الإسرائيلية غير منطقية ولا ترتبط بالواقع العسكري القائم.
يبدو أنّ الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية فقدتْ ارتباطها الواقعي بمتعلّقات جبهتها الشمالية، فالتصاريح الجديدة التي صدرت عن تل أبيب عقب المناورة الأخيرة (نقطة تحوّل-15) لا تمتّ إلى المنطق القووي بصلة، خاصة فيما يختصّ بحقائق قوة "حزب الله". فقد نقل مراسلون عسكريون عن هيئة الأركان العامة الإسرائيليّة "أنّه في الحرب المقبلة سيتمّ تهجير مليون ونصف مدني لبناني من الجنوب خلال 24 ساعة، مع تدمير ما يقارب العشرة آلاف هدف عسكري لحزب الله، إضافة إلى السيطرة الكاملة بالمراقبة والنيران على الجولان". ترجمة هذا الكلام في الجغرافيا العسكرية تعني التالي: القضاء على "حزب الله" نهائياً، إخلاء الجنوب اللبناني من سكّانه ثم احتلاله، وبالتالي قلب المعادلة في سوريا تمهيداً لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد. لكنّ هذا التصوّر الأسطوري ليس له من مقوّمات سوى الوهم، لأنّ الواقع الإقتداري لـ"حزب الله" يثبت مدى تعاظم قدراته التي لا يتسع المجال لبحثها الآن. لذلك يمكننا قراءة هذه التصريحات الإسرائيلية الأخيرة وفق اتجاهين تحليليّين في ما يختصّ بالنسق العسكري ونُظمته الاستيطانية.
الاتجاه الأول يقودنا إلى الحديث عن نوع من "الذهان العسكري" الذي أصاب القيادة العسكرية الإسرائيلية، تماماً كما حصل للقيادة الحربية النازية إثر وصول جيوش الحلفاء إلى الحدود الألمانية، فباتت تضع تصوّرات وتوقّعات وهمية بعيدة عن مجريات الواقع. تنشأ هذه الحالة الهذائية نتيجة ثلاثة عوامل متلاحقة: صدمة هلعية أولية ناجمة عن حدّة القلق والتوتر والإحساس بالعجز تجاه التعامل مع المتغيّرات واستيعابها، ينتج عنها ثانياً شحنة من الانئخاذ الشديد المؤدّي إلى الإنفصال عن الواقع، وفي المقام الثالث يحدث اختلال في التفكير وتعمية هستيرية مما يكرّس اللاعقلانية في الإدراك وإطلاق التصوّرات الهذائية. وهذا ما حدث في البنية العقلية للقيادة العسكرية الإسرائيلية، فانتصارات "حزب الله" الأخيرة في القلمون وجرود عرسال شكّلت محاكاة نموذجية لاحتلال الجليل، لا بل جعلت احتلاله واقعاً يسيراً يثير القلق والخشية الجدّيّة. وقد تسبّب ذلك في صدمة هلعيّة لهيئة أركان الجيش الاسرائيلي، مما حدا به في مناورته الأخيرة إلى تدريب سكان المستعمرات الشمالية على الإخلاء الوقائي لمنازلهم باتجاه الداخل. ثم تلتها حالة من عدم القدرة على اجتياف واستيعاب تطوّر القدرات الميدانية لحزب الله في الواقع الجغرافي المحاذي للشمال الاسرائيلي. وبعد ذلك راح العقل العسكري الإسرائيلي يقوم بإواليات دفاعية هذائية وغير منطقية في إعلان تصوّراته التهديدية.
الاتجاه الثاني يستند على الوضعية الإزدواجية للسلوك العسكري الإسرائيلي القائم على ترهيب المقاومة وشعبها من جهة، وتعبئة جبهته الداخلية من جهة ثانية، فتكون أهدافه هي التالية: إحباط وتفكيك البنية الصلبة لشعب المقاومة عبر محاولات ترهيبه، حيث من الملفت أنّ التصريحات الإسرائيلية الأخيرة هي تهديدٌ للمدنيين قبل رجال حزب الله. وكذلك فكّ أواصر الإرتباط بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، باعتبارها أحد أهم عناصر الاقتدار المقاوم. أضف إلى ذلك محاولة إرباك حزب الله في تدبير مسارات قوّته، خاصة وأنّ التقرير الإسرائيلي يستند إلى انشغال قسم كبير من عديد وعتاد حزب الله في سوريا. أما على مستوى الجبهة الداخلية فيبدو أنّ إسرائيل شخّصت طغيان الحالة المدنية على المستوطنين بأنها السبب في ضعف الجبهة الداخلية، لذلك فهو يهدف من خلال إشراك مستوطنيه في المناورات وإعلان هذه التصريحات إلى عسكرة المجتمع الإسرائيلي كما كان الحال عليه في بدايات نشأة اسرائيل. وبالتالي توحيد المنظومة المدنية مع المنظومة العسكرية في بنية استراتيجية موحّدة، متأهبة ومستنفرة على الدوام لمواجهة المأزق الوجودي، الذي تعيشه اليوم وسط جغرافيات المنطقة التي بات يطغى عليها الطابع العسكري. ومع كوني أميل راهناً إلى تحليلي في الاتجاه الثاني، لا بل إلى ربط الاتجاهين عقلاً، فإنّنا في كل الحالات نرى العسكريتاريا الإسرائيلية قد دخلت في حالة من اللاواقعية.
نلاحظ أن هذا التصريح الإسرائيلي قد ورد على لسان ضابط في هيئة الأركان لم يعلن عن اسمه، وهذا يدلّ على أنّ القيادة الرسمية الإسرائيلية لا تريد تبنّي هذا التصريح بشكل فعلي وعلني، مما يعني أنّها عملية جسّ نبض لـ"حزب الله" تدخل في إطار آلية الحرب النفسية من جهة ومحاولة فرض معادلة جديدة من جهة أخرى. ومن خلال معرفتنا وفهمنا لاسرائيل نرى أنّ وقوع الحرب أمرٌ مستبعد، لأنّها عندما تقرّر القيام بعملية عدوانية لا تستبقها بتهديدات، خاصة من مثل هذا النوع الذي يكشف عن الكيفية التي ستشنّ بها هجومها. ويبقى الملفت في التفكير العسكري الأخير لإسرائيل طغيان حالة من اللاواقعية واللاعقلانية عليه، مما يجعله مجرّداً من كل منطق طبيعي لتحقيق أهدافه الترهيبية أو الاختبارية لمواقف المقاومة وشعبها.
* مدير المركز الاستشاري للدراسات الأنتروستراتيجية