أغرب تحليل سياسي او قراءة للمشهد السوري يقدمه منظّرون على طاولات المطاعم الفرنسية. منذ اربع سنوات كان يتحدث هؤلاء عن سقوط محتّم للنظام في سوريا خلال أسابيع. كانوا يعتمدون على استنسابية القراءة بدل الإحاطة بالمشهد العام. اليوم تتكرر نفس التحليلات من دون الأخذ بعين الاعتبار ما الذي يجري سوريًّا بعد تمدد "داعش" وماذا يحصل في العراق واليمن و مصر، اضافة الى التغييرات السياسية التركية.
يبني محللون على التهديدات الارهابية للاذقية بصفتها معقل النظام الاساسي. صحيح ان ريفها يشهد منذ سنوات مواجهات لم تتوقف يوما، وصلت الى حد احتلال كسب قبل تحريرها، لكن لا ينطبق ما حصل في ادلب على ارض الساحل السوري. اسباب عدة تتحكم باللعبة الميدانية عدا عن الخطوط الحمراء الدولية المرسومة حول الساحل.
يتحدث المواطنون فيه عن معركة وجود يخوضونها اذا فرضت عليهم. لا مكان اخر يلجأون اليه، ما يعني عدم الاستسلام او التراجع في حسابات اهل الساحل. هم يدركون ان الحرب عليهم نفسية بالدرجة الاولى. زائر اللاذقية وطرطوس يلحظ ذلك. زحمة وحياة طبيعية وفنادق ورواد مطاعم. عندما تطرح أمامهم مشروع التقسيم كحل للازمة السورية يسألونك: على اي اساس؟ جوابك: على أساس طائفي، الساحل دولة للعلويين. فورا يأتيك الرد سؤالاً: هل تعلم ان مليون وأربعمئة الف نازح سوري من حلب وديرالزور والرقة وادلب والأرياف أتوا الى اللاذقية؟ مثلهم أيضاً صار يقطن في طرطوس وبانياس. لم يستأجروا، بل تملك معظمهم بيوتاً ومحالاً وأسس شركات، ما يعني عملياً تبدلاً ديمغرافياً حصل في الساحل السوري وريفه. لو كانت القيادة السورية تقبل بالتقسيم، لم تكن لتوافق على استقبال النازحين او تسهيل أعمالهم. هؤلاء الوافدون يناصرون النظام. هم شكلوا الكثافة السكانية في الساحل الى جانب حمص ودمشق والسويداء. أعدادهم مجتمعين تفوق سبعين في المئة من عدد الشعب السوري. لذلك عندما يتحدث السوريون عن أكثرية تقف الى جانب الدولة، فهم يستندون الى الواقع الديموغرافي في المناطق الآمنة.
من اهم اسباب المواجهة تلك المكانة التي يحتلها الساحل السوري بالنسبة الى حلفاء دمشق: روسيا وإيران تحديداً. القواعد العسكرية الروسية في طرطوس هي اهم قواعد البحرية الروسية. الحاجة اليها ضرورة استراتيجية، خصوصا ان النزاع الروسي مع الغرب والسباق حول النفوذ يتزايد.
في اليومين الماضيين سُجل سقوط لتفرد حزب "العدالة والتنمية" بالسياسة التركية. ابرز الإشارات كانت بنسبة التصويت المتدنية التي نالها الحزب في المناطق المحاذية لسوريا، وتحديدا غازي عنتاب ومحيطها، ما يعني ان المواطنين الاتراك غير راضين عما يجري في بلداتهم. بالنسبة اليهم لقد شرعتها سياسة الرئيس رجب طيب اردوغان للمسلحين. غاب الأمان الذي نعمت به طويلا. لم يعد يستطيع اردوغان التفرد بالقرارات. انها المرحلة القادمة التي تذكّر بما حصل في مصر نسبيا، مع فارق سقوط "الاخوان المسلمين" كليا في مصر، وسقوط خياراتهم السياسية في تركيا.
عندما سقط نظام "الاخوان" في مصر تغيرت السياسة المصرية تجاه سوريا، ما بقي من مواقف القاهرة حتى الآن حول وضع النظام يراعي الرياض لا اكثر. الآن سقطت الخيارات الاخوانية في تركيا، ما يفرض تعديلا متدرجاً بشأن الازمة في سوريا.
انها متغيرات مهمة ، لكنها لا توازي ما يحصل ميدانياً. اخفق الجيش السوري في عدة اماكن. نكسات في ادلب وجسر الشغور وأريحا والمسطومة. جميعها ضمن بقعة جغرافية واحدة. أيضاً سقطت تدمر. لكن ماذا يجري حول مناطق المعارضة؟
يتقدم تنظيم "داعش" في كل مساحة يخوض فيها المواجهات مع "جبهة النصرة". انظروا الى ريف حلب ودرعا وانتظروا ريف دمشق. الحرب مفتوحة بين الطرفين حتى ينهي أحدهما الآخر. لا مكان للتسويات. يُدرك التنظيم ان 'النصرة" هي منافسته في وجوده. يتفرغ للحرب معها قبل ان يتابع عملياته ضد النظام. كذلك يفعل الجيش السوري، يخوض معاركه ضد "النصرة" التي يحاول الغرب تسويقها بديلا عنه، في حين ان الحرب ضد "داعش" مشرعة دوليا.
لا يمكن التنبؤ حول مستقبل سوريا دون الأخذ بعين الاعتبار تلك المتغيرات السورية والإقليمية، عدا عن الحسابات الدولية التي لم تهضم "النصرة" كفصيل ثوري سوري معارض. قد لا تتكرر فرصة المسلحين بعد الآن. قد يفتح التوافق النووي الغربي- الإيراني باباً تسووياً حول سوريا. حجم المتغيرات يتزايد. ما صحّ في قراءة المشهد السوري في الأعوام الماضية حُكماً لن يصح مستقبلا. كل الخيارات مفتوحة. لكن جملة معدّلة معبرة يرددها سياسي سوري عتيق في الدلالة على ان ما مر عليهم كان أصعب: نحن الغرقى وما خوفنا من البلل.