وقف الزعيم الراحل جمال عبد الناصر إلى جانب سورية خلال نهايات الخمسينات من القرن الماضي، انتصاراً لها ودفاعاً عنها، في وجه حكومة عدنان مندريس التركية، عندما قام الأخير بتهديدها، الأمر الذي أدّى في تلك اللحظة السياسية إلى إسقاط العدوان عليها وإبطال مفاعيله، لأنّ عبد الناصر كان يمتلك المشروعية الكاملة والإمكانات المهمة المؤثرة جدّاً في هذا السياق، فهو القائد القومي العربي الذي كان ينظر إلى الوطن العربي باعتباره أرضاً وشعباً وطموحات وتطلعات وأحلاماً واحدة، إضافة إلى مشروعية ثورية وفّرتها شروط المرحلة وجملة صفات في شخصية الراحل جمال عبد الناصر.
إلى جانب موقف عبد الناصر، هناك جملة أسباب أخرى أنتجت جميعها مناخاً جديداً داخل تركيا وخريطتها السياسية، الأمر الذي أدّى إلى استعصاء سياسي مهم وكبير، دفع القوات المسلحة التركية إلى القيام بانقلاب على السلطة السياسية، فأطيح برأس مندريس وفريقه السياسي، وذهبا إلى مزبلة التاريخ!
التتمة ص11
تلك اللحظة السياسية تحاكي إلى حدّ بعيد ما شهدته سورية منذ مطلع عام 2011، إذ أنّ مندريس يُستبدل بأردوغان، الذي كان رئيسيّاً في مشهد العدوان على سورية، تحت عناوين عديدة، أهمّها أنّه يقف إلى جانب الشعب السوري في «ثورته»، وهي الأسطوانة المشروخة التي ظلّ يتنقل فيها من محطّة إلى أخرى، مؤكّداً أنّه يقف إلى جانب الشعوب التي تنادي بالحرية، ولم يكن غريباً علينا أنّ أردوغان لم يقف إلى جانب الشعب في البحرين واليمن أو إلى جانب الشعب المصري حين ثار على قيادة «الإخوان المسلمين»، كما أنّه لم يكن غريباً علينا عدم وقوفه إلى جانب الشعب الفلسطيني خلال العدوان الصهيوني عليه، بخاصة في غزّة أخيراً، علماً أنّه قدّم نفسه كسلطان عثماني جديد يدافع عن الإسلام والمسلمين، إذ أنّنا كنّا ندرك جيّداً الدور البعيد والوظيفي الذي كان يسند إلى أردوغان أميركيّاً على مستوى المنطقة.
توفّرت لأردوغان أسباب مهمة كي يتدخل في سورية، عسكريّاً ومن خلال الجيش التركي، كون أنّ ظروفاً صاعدة أمّنت إمكان هذا العدوان، باعتبار أنّ هناك تخليّاً عربيّاً عن سورية، إضافة إلى إمكانات توفرت في ظلّ اصطفافات وتحالفات رسمت خرائط جديدة، كما أنّ عناوين رسّخها العدوان الكبير على سورية مكّنت من أن تفرز أسباب تدخل أو عدوان مباشر، يمكن له أن يقدّم على أنّه تدخل من أجل السوريين، ولا يصوّر على أنّه عدوان على سورية.
لقد كانت اللحظة ناضجة جداً، وأعتقد أنّها لن تتكرّر تاريخيّاً، وكان يمكن لتركيا أن تدخل في مواجهة مع سورية، لا يمكن أن تنتهي إلا بصعود خرائط مختلفة جداً عمّا هي عليه المنطقة الآن، وبالتالي فإنّ اللحظة كانت مشدودة بشكل كبير جدّاً، حيث أنّ أردوغان صرّح بأنه ذاهب للصلاة في المسجد الأموي، ولا نعتقد أنّ هذا الكلام سهل أو عاديّ لمن يعي بالضبط رمزية الجامع الأموي والصلاة فيه، ثم لمن يفهم بدقة الرمزية الأخرى التي تتعلق بمعنى أنّ «عثمانيّاً» يقول إنّه ذاهب للصلاة في الأموي على أنقاض قيادة قائمة في دمشق!
كان التدخل التركي قائماً إذن، ولم تستطع روسيا أن تمنعه بالشكل الذي يصدّره أو يتصوّره الكثيرون، ولعلّ رغبة أميركية كانت تدفع في هذا الاتجاه، كما أنّ مناخاً إقليمياً وعربيّاً كان قد توفر لذلك، وجاءت اللحظة التي كانت تطمح لها قيادات تركية، في ظلّ أصوات تعلو لجهة أنّ الخلافة العثمانية سقطت بخيانة العرب للأتراك، من خلال تحالفاتهم مع قوى أرادت النيل من الخلافة العثمانية، وأنّ قيادات عربية هي المسؤولة عن سقوط هذه الخلافة، والغريب أنّ قيادات عربية كانت توافق وتسلّع مثل هذا الكلام، وتدفع باتجاه مشروعية حضور تركي تحت راية الخلافة، من خلال عثماني يعتبر أنّ الدولة العثمانية ما زالت قائمة، وأنّها سوف تعيد مجدها، وأنّ «أعراباً» لا يمانعون عودتها، ولو كانت هذه العودة على دماء السوريين!
لحظة الاستفراد بسورية كانت مغرية جدّاً، ونادرة جدّاً، ولم يكن أمام حلفاء سورية إمكان الذهاب بعيداً في ما ذهب إليه الراحل جمال عبد الناصر، إلا أنّ أمراً مهمّاً كان يمكن أن يحصل يؤدّي إلى النتيجة ذاتها التي أدّى إليها موقف عبد الناصر يوماً، لكن من نافذة أخرى، وهي أنّ سورية لن تبقى وحيدة، من هنا كان موقف سماحة السيد حسن نصرالله لجهة دفع جزء من عناصر حزب الله نحو التراب السوري، يدافعون عن سورية إلى جانب القوات المسلحة السورية وإلى جانب القوى الشعبية، وهي اللحظة التي كانت ضامنة لقلب جميع الحسابات التركية.
لم يعد العدوان التركي المباشر والمحتمل على سورية عدواناً عليها فقط، لأنّ جزءاً من الشعب اللبناني يقف إلى جانب سورية، وهي لحظة متقدّمة أدّت إلى نتائج أكثر حسماً، فالعدوان إذن لن يكون فقط على سورية وإنما سيكون بشكل غير مباشر على لبنان، وهو ما يمكن أن يتمّ استثماره لجهات أخرى تتعلق بمعركة قد لا تتوقف عند حدود سورية ولبنان، وإنما سوف يتداخل فيها الإقليمي والدولي أيضاً، الأمر الذي قد يؤدّي أخيراً إلى حسابات لم يكن في مقدور أردوغان الإحاطة بها.
صحيح أنّ السيد نصرالله لم يذهب مباشرة إلى تهديد أردوغان ومشروعه العدواني على سورية، لكنّ أردوغان فهم الرسالة التي عناها وقصدها نصرالله، وهي أنّ أيّ عدوان على سورية يعني عدواناً على حزب الله، وبالتالي عدواناً على لبنان، وفي هذه الحالة لن تكون إيران بعيدة من ذلك، كما أنّ العراق سيكون حاضراً فيها، في ظلّ عناوين قد تتسع وتتداخل تحت شعارات قد لا يستطيع أردوغان أو سواه أن يقوم بلملمتها.
أصاب اللحظة السياسية التي يقودها أردوغان استعصاء سياسي كبير، فقد فوّت عليه نصرالله إمكان التدخل المباشر في سورية، تماماً كما فعل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وهو ما أدّى إلى نتائج انتخابية لا يمكن لها أن تبقي أردوغان متزناً أو قادراً على تبنّي الأفكار والوعود ذاتها التي كان يتحدّث فيها، وهذا له ما يليه، إذ أنّ ما يليه في النتائج البعيدة لن يكون مختلفاً عمّا لاقاه مندريس، إنْ كان رأسه قد تدحرج في شوارع أنقرة، أو تدحرج إلى مزبلة التاريخ، فالأمر سيّان.