تجسّد كلام رئيس حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي صلاح الدين دميرطاش على الأرض، بقوله أنّ سوريا لن تكون بعد تراجع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كما كانت قبله، فقد سقط تلّ أبيض وقطعت طريق إمدادات "داعش" باتجاه الرقّة أي باتجاه الحدود السوريّة-العراقيّة. إلى هناك ترنو العيون واتجاه تركيّا نحو لحظات جديدة ستختلط الأوراق في حدودها لتحدث الدويّ الكبير بدورها خارج الحدود سواء بحكومة ائتلاف أو حكومة تؤلّفها المعارضة..
عمليّة التدحرج السياسيّ مقابل صعود المعارضة بغالبيّتها الكرديّة، يفسح المجال لمجموعة تساؤلات بدأ بعضهم يطرحها بصوت عال، حول تكوين دولة كرديّة تجمع فيها مناطق حدوديّة بين سوريا والعراق وتركيا، وتذهب التساؤلات أبعد من ذلك إسقاطًا لما تمّ التداول به في مراكز أبحاث أميركيّة حول خريطة جديدة تطلق مجموعة خطوط تستجمع بأطر جيو-سياسيّة فيولد من رحمها وبعد مخاض طويل شرق أوسط جديد. وتستند التساؤلات إلى وقائع على الأرض انكشفت بدورها في معركة تلّ أبيض الأخيرة، منها مساندة قوات التحالف الدوليّ من الجوّ أكراد سوريا في المعركة، وتتحرّك تلك التساؤلات في مدى مليء بالمقارنات والمقاربات المنطلقة بدورها من الميدان، فتظهر بونًا بين المعارك التي يخوضها الجيش السوريّ في العديد من المواقع السوريّة، وسقوط مدن عديدة كتدمر والقامشلي وجسر الشغور وإدلب بالتباس ظاهر، ومعركة تلّ أبيض، وفيها انتصر الأكراد على تنظيم "داعش"، فاستعادوها ليقطعوا طريق الموصل. وتشير المقاربات المطروحة بالعبارات وبسياقها الموضوعيّ إلى تناقض واضح وجليّ في تعاطي قوات التحالف الدوليّ مع الواقع السوريّ. ففي مناطق تغضّ الطرف عن سقوطها بل تتركها فريسة للتنظيمات التكفيريّة، فيما هي تساند الأكراد في المعارك الدائرة على الحدود السوريّة-التركيّة، فتخرج التمتمات من جوف المقاربات بإيحاء واضح تحاول فيه البوح عن خطوط مرسومة لسوريا، واستطرادًا لدول المشرق العربيّ، وبخاصّة على الحدود السوريّة-التركيّة وصولاً إلى الحدود السوريّة-العراقيّة.
لكنّ بعض الرؤى تكشف بأنّ الأمور ستختلف اختلافًا جوهريًّا في الميدان السوريّ مع تراجع أردوغان الانتخابي واقتراب توقيع الاتفاق النوويّ بين الولايات المتحدة الأميركيّة وإيران. وبعض القراءات ذهبت في التحليل، إلى أنّ الأميركيين سعوا من خلال المجموعات الكرديّة والمعارِضة إلى تحجيم الرئيس التركيّ. وفي واقع الأمور إنّ ما حصل في حقيقته ليس مجرّد تحجيم لشخص بقدر ما هو مواجهة وإفشال لأطروحة كان للأميركيين دور أساسي وحتّى قبل الأتراك في استيلاد القوى التكفيريّة وتبنيها وإظهارها وزرعها في بقع محدّدة من أفغانستان إلى المشرق. وأسندت عمليّة زرعها في المشرق العربيّ إلى المثلّث التركيّ-السعوديّ-القطريّ، وبإشراف إسرائيليّ واضح في مواجهة إيران. وحين أطلّت من المشرق العربيّ على الواقع الغربيّ لتنذره بالتفجير، بانقلاب السحر على السّاحر تمّ التغيير الاستراتيجيّ في الرؤية الأميركيّة لنظام المنطقة من المشرق العربيّ إلى الخليج، وبصورة خصوصيّة نحو إيران لتهيّئ معها المناخ الإيجابيّ لمفاوضات حول تخصيب اليورانيوم وعلاقة إيران في المنطقة، أثمرت نجاحًا، والمرتقب أن يتمّ توقيع الاتفاق النووي في آخر الشهر الجاري بينهما. وعلى هذا الأساس إنّ السعي الأميركيّ انطلق في مراحله الأخيرة نحو تفكيك هذا المثلّث التركيّ-السعوديّ-القطريّ المحتوي للحركات والتنظيمات التكفيريّة في الصراع في سوريا وعليها، ولذلك تمّ "زكزكة" أردوغان انتخابيًّا بمقاييس وحسابات وأهداف واضحة، وقبل ذلك تمّ إغراق السعوديّة في الوحول اليمنيّة لتتحوّل من الهجوم على اليمن بواسطة عاصفة الحزم إلى الدفاع عن حدودها كما إضعاف العنصر القطريّ وحصر دوره بنقاط محدّدة. ويعتقد بعض المراقبين بأنّ معركة تلّ أبيض بالدعم الدوليّ وإغلاق طريق إمدادات داعش نحو الرقّة استكمال لتطويق أردوغان من الميدان السوريّ، وتاليًا، منع قيام مناطق عازلة بحسب المنطق الأردوغانيّ تكون مخصّصة لإدخال عناصر تكفيريّة إلى سوريا مع السلاح. ويظنّ هؤلاء أنّ تلك العلامات هي المقدّمة الفعليّة الميدانيّة على الأرض لتبويب الاتفاق مع إيران، بتدحرج العناصر المواجهة لها في سوريا أو العراق، وقد ساعدت تلك المقدّمة بالتحوّل الجذريّ في مفهوم الحرب السّائدة من الضفّة والصفة المذهبيّة إلى الضفّة والصفة البنويّة والقوميّة، سواء في البيئة السنيّة السعوديّة الداخليّة بعدما تمظهرت في اليمن مذهبيّة مع الحوثيين، وفي لبنان في حقبات معيّنة بين "تيار المستقبل" و"حزب الله"، وهما وعلى الرغم من التوتّر اللفظيّ إلاّ أنهما لا يزالان مندرجان في عمليّة الحوار، وفي تركيّا بانتصار الأكراد كعنصر قوميّ-سنيّ والمعارضة على أردوغان كحالة لها إطارها المذهبيّ وبعضها علمانيّ.
من هذه الزاوية وهذا المشهد على وجه التحديد انطلق التغيير من حقبة إلى أخرى. أشارت بعض الأوساط المراقبة بدقّة لعمليّة التحوّل النوعيّ والاستراتيجيّ في السياق الأميركيّ، إلى بعض الإيجابيّات المنسابة بفعل التغيير في مسرى المعارك على الأرض في سوريا.
وعلى الرغم من استثمار الأميركيين للأوراق التكفيريّة في كثير من المواقع، ووجودهم في غرف عمليات مشتركة في الأردن أو تركيا أو قطر، فإنّ الأوساط لاحظت بأنّ الأميركيين لم يعودوا موجودين بتلك الكثافة التي كانوا عليها في السابق، ممّا يعني أنّ جوهر الحلّ السياسيّ في سوريا لن يقوم على مبدأ إسقاط النظام وبالتحديد الرئيس بشار الأسد، كما كان سائدًا في المرحلة الأولى للأحداث في سوريا. وقد استندت تلك الأوساط على الأدبيّات السياسيّة الحديثة في الإدارة الأميركيّة والبيت الأبيض، القائلة سواء على لسان الرئيس الأميركي باراك أوباما أو سواه بأنّ الحلّ لن يكون بإسقاط الأسد.
وتشير الأوساط عينها بعد استفسار بعضهم عن سبب سقوط إدلب وجسر الشغور وحلب والقامشلي وقرى نهر الخابور، وهل هناك الحلّ السياسيّ سيكون بتقسيم ينطلق من الميدان؟ فتشير إلى أنّ الأميركيين ليسوا مقتنعين فعليًّا بجدوى التقسيم في ظلّ الفوضى الخلاّقة والمدمّرة عن طريق تلك القوى التكفيريّة والتي بدأت تفرض إمارتها وشروطها على الطاولة بدعم من الدول المولّدة والزارعة لها. فبمجرّد إضعاف السعوديّة وإلهائها في الخلافات الداخليّة والعموديّة، وتراجع أردوغان يعتري الضعف تلك القوى مما يسهّل قضمها وبتر أوصالها واقتلاعها شيئًا فشيئًا، ويمهّد الطريق نحو الحلّ السياسيّ في الداخل السوريّ، وكلّ هذا يتمّ بالتنسيق مع موسكو الداعم الأوّل للنظام وإيران والفاتيكان له دور اساسيّ في تلك الخيارات.
وفي النهاية، وبحسب تلك الأوساط، إنّ معارك القلمون وجرود عرسال ستمتدّ من جديد نحو المناطق التي تمّ إسقاطها... والمحافظة على مطار ثعلة في السويداء من قبل الجيش السوريّ، يعطي الدفع في هذه البقعة الاستراتيجيّة الممتدّة إلى الحدود اللبنانيّة والأردنيّة والمحاذية للجولان لخوض معركة التطهير المطلوبة بصورة جذريّة، تمهيدًا للحلّ السياسيّ المطلوب، على الرغم من الدماء المهراقة والخراب الهائل.