على مدى عقود من الزمن، وجدت السعودية، الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة، نفسها في موقف "العداء" لروسيا، نظراً إلى الصراع القائم بين واشنطن وموسكو منذ القدم، لا سيما خلال فترة الحرب الباردة التي سبقت سقوط الإتحاد السوفياتي، حيث لعبت الرياض دوراً بارزاً في تمويل الحروب الأميركية في الشرق الأوسط.
وفي حين كانت روسيا تعلن دائماً إستعدادها لأفضل العلاقات مع السعودية، كانت الأخيرة لا تجد مصلحة في ذلك، لا سيما في ظل إيمانها بأن واشنطن ستبقى الحامية لها من أي خطر خارجي أو داخلي، لكن مع عودة "الدب الروسي" إلى المنطقة، إنطلاقاً من الأحداث السورية بشكل أساسي، وجدت الرياض نفسها مضطرة إلى تفعيل قنوات الإتصال مع موسكو، لدفعها إلى تبديل مواقفها، خصوصاً بعد أن أثبتت الولايات المتحدة أنها دخلت مرحلة جديدة من السياسة الخارجية، تقوم على إنهاء فترة النزاع مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية حول ملفها النووي.
المال، هو السلاح السعودي الأبرز في هذا المجال، وليس حكماً عن طريق دفع رشاوى مالية مباشرة إلى الحكومة الروسية، بل عبر الإغراء بعقد الصفقات الإقتصادية والعسكرية، الأمر الذي تقوم به الرياض مع حليفتها الأوروبية فرنسا، لدفعها إلى التعبير عن الموقف الخليجي من أي إتفاق محتمل مع طهران.
من وجهة نظر مصادر مراقبة، الحديث عن المخاوف السعودية من الموقف الأميركي لم يعد خافياً على أحد، لا سيما أن هذا الأمر إضطر الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى عقد لقاء مع قادة الدول الخليجية، في كامب ديفيد، لطمأنتهم إلى المستقبل، والتأكيد لهم إستعداد بلاده إلى توقيع المعاهدات الدفاعية بهدف حمايتهم، إلا أن هذا ذلك لم يبدد المخاوف.
وتشير هذه المصادر، عبر "النشرة"، إلى أن الرياض عبرت أكثر من مرة، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن قلقها من العلاقة الناشئة بين واشنطن وطهران، وسعت إلى عرقلة هذا الأمر بأي وسيلة ممكنة، لكنها فشلت حتى الساعة، خصوصاً أن أوباما يعتقد أن توقيع الإتفاق النووي، هو الإنجاز الوحيد الذي يستطيع أن يقدمه إلى شعبه في نهاية عهده.
"المفتاح في موسكو"، قناعة تداولتها شخصيات سعودية في السنوات الأخيرة، لكنها لم تنجح بترجمتها بسبب عدم إدراكها لتوجهات روسيا الإتحادية الجديدة، الساعية إلى إثبات عودتها بقيادة فلاديمير بوتين إلى الساحة الدولية، حيث لدى موسكو أوراق عديدة من الممكن التساهل في بعضها، دون التراجع خطوة واحدة في بعضها الآخر، خصوصاً بالنسبة إلى القيادة السورية، لا سيما أن العودة الروسية إلى الواجهة كانت من بوابة دمشق وحدها.
وفي الوقت الذي كانت فيه موسكو تدافع عن مصالحها ونفوذها، عبر دعمها الكامل لحكومة سوريا، سياسياً في المحافل الدولية، وعسكرياً من خلال تزويدها بالأسلحة والمستشارين، كانت الرياض في المقلب الآخر تدفع الأموال الطائلة لإسقاط الرئيس بشار الأسد، وتوجه الإنتقادات إلى بوتين ومعاونيه، إلى أن إعتقد مدير المخابرات السعودية بندر بن سلطان أنه وجد الوسيلة المناسبة لتبديل الموقف الروسي، من خلال إغرائه بالأموال الطائلة، عبر عقد صفقات عسكرية وإقتصادية معه، إلا أن الرد الروسي كان صادماً، لا سيما أن تراجع موسكو في سوريا، يعني حرمانها من قاعدتها العسكرية على البحر المتوسط في مدينة طرطوس السورية، وخسارتها نفوذها في النظام العالمي الذي بدأ يتحول إلى متعدد الأقطاب، وقبل بداية الأزمة السورية كان بن سلطان نفسه يعتقد أنه قادر على تبديل الموقف الروسي من الملف النووي الإيراني عبر سلاح المال أيضاً، حيث سعى إلى تحقيق هذا الهدف في العام 2008.
وفي الوقت الذي كان ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلطان، الرجل الأقوى في المملكة في المرحلة الراهنة، يزور موسكو في اليومين الماضيين، برز سلاح الرياض الإستراتيجي، أي المال، من جديد على طاولة المباحثات، لكن الهدف الأساس ليس الأوضاع على الساحة السورية، بحسب ما ترى المصادر المراقبة، بل في الساحة اليمنية، التي لم يمانع الروس فيها صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي، عبر إستخدام حق النقض، يتبنى إلى حد بعيد الموقف الخليجي، والرياض تأمل أن يتمكن بوتين من إقناع الإيرانيين بالضغط على حركة "أنصار الله"، للوصول إلى إتفاق يحفظ ماء وجههم، مقابل توقيع العديد من الإتفاقيات العسكرية والإقتصادية، أبرزها تلك المتعلقة بالتعاون في مجال استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية.
في المحصلة، ستكشف الأيام المقبلة، في ضوء الحديث عن زيارة قريبة جداً للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو، مدى نجاح نجله محمد، في إغراء الجانب الروسي، لدعم بلاده في بعض القضايا العالقة، خصوصاً بالنسبة إلى الأحداث اليمنية، لكن الأكيد أن بوتين يستفيد من التقارب الأميركي الإيراني وتخوّف الرياض منه بشكل جيد.
تجدر الإشارة إلى أن روسيا تعتبر أن السعودية قادرة على لعب دور في إعادة أسعار النفط إلى مستواها الطبيعي، بعد أن ساهمت من خلال زيادة إنتاجها في خفضها بشكل كبير، نتيجة الرغبة بضرب الإقتصادين الروسي والإيراني، ولكن هل يستطيع بن سلمان، الذي بات المقرر الأساس في هذا القطاع داخل المملكة، أخذ قرار خفض الإنتاج من جديد في ظل الحروب التي تخوضها بلاده على أكثر من جبهة؟