يبدو ان نموذج محمد زهير الصديق، «الشاهد الملك» (سابقاً) لدى التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لاقى نجاحاً لدى الاستخبارات السعودية. الصدّيق كان يعرف كل شيء. التقى «منفذي الجريمة» جميعاً، معاً، ومتفرقين. شاركهم إصدار القرار والتخطيط والتنفيذ بكل حذافيره. يمكن اختصار روايته تلك بأنه كان مع كل المنفذين، في كل زمان، وفي كل مكان.
ويبدو ان الاستخبارات العامة السعودية اعتمدت الصديّق مدرسةً في توظيفها للمخبرين. تقارير هذه الاستخبارات التي ظهرت في وثائق «ويكيليكس» تنقسم إلى قسمين: الأول هو معلومات عامة للغاية، متوفرة في وسائل الإعلام والمواقع الالكترونية. تُصاغ في تقارير تصنّف سرية، وتمهر بتوقيع رئيس الاستخبارات (كان الرئيس السابق، مقرن بن عبد العزيز، يضع كلمة «الخادم» قبل اسمه في البرقيات التي يبعث بها إلى الملك). وتحت مقدّمة «معلومات توفرت لدى رئاسة الاستخبارات العامة»، تُحشى البرقيات بكلام عام، فيه الكثير من الإطناب والحشو اللفظي والدعائي (على سبيل المثال، وفي برقية صادرة في حزيران 2012 بشأن ردود الفعل اللبنانية على رسالة الملك السعودي للرئيس ميشال سليمان، يقول مقرن: «يرى المواطنون اللبنانيون بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم بأن الرسالة تمثل مفتاح الحل في ظل الأزمة التي يعاني منها لبنان». عبارة تعميمية يندر ان ترد إلا في الإعلام الموجّه، لكنها تُقدّم للملك السعودي بصفتها معلومات خاصة من الاستخبارات العامة).
القسم الثاني يتضمن معلومات «خطيرة»، حصّلتها الاستخبارات السعودية من مصادرها «السرية». إحدى أبرز البرقيات تقول فيها إن معاون نائب الرئيس السوري، اللواء محمد ناصيف، عقد اجتماعاً في دمشق، يوم 3/2/2012، مع مسؤولين لبنانيين، «لتكليفهم بالقيام بأعمال امنية ضد الجماعات السلفية والإخوان المسلمين المتواجدين في لبنان، لان النظام السوري يرى بأنهم متورطون بالأعمال والتحركات التي تشهدها سوريا منذ ما يقارب العام». وهذا «التكليف» يأتي في إطار «سعي النظام السوري للقضاء على المجموعات السلفية التي بدأت تتخذ من عاصمة لبنان مقراً لها، خاصة في المناطق السنية».
«اهمية» المعلومات ليست في أصل الاجتماع ولا في مضمونه، بقدر ما هي في أسماء «حاضريه» من الجانب اللبناني، وهم:
الوزير علي حسن خليل، النائب عاصم قانصوه، الوزير السابق عبدالرحيم مراد، رئيس حزب التيار العربي شاكر البرجاوي، القائد السابق للواء الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان، النائب السابق نجاح واكيم ونائبه في رئاسة حركة الشعب ابراهيم الحلبي، النائب السابق علي عيد، والوزير السابق وئام وهاب.
وبحسب وثيقة مقرن، فإن واكيم اعترض على طلب ناصيف، إلا انه «وافق بعد تعرضه للتهديد بتصفيته». بعض هذه الشخصيات بينها عداوات، وبعضها الآخر لم تجمعهما غرفة واحدة منذ عقود. لكن لا فرق. فمخبرو استخبارات آل سعود لا يتوقفون عن بث المعلومات الخطيرة. وعلى المنوال ذاته، يُتبع مقرن برقيته بأخرى، يؤكد فيها أن وهاب تلقى شحنة من الأسلحة والمتفجرات من الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة. «وتم تخزينها في مخزن خاص بحزب التوحيد، في بلدة الجاهلية بإقليم الخروب (فات مخبر مقرن انها في الشوف لا في الإقليم). والحزب المذكور تلقى عناصره وكوادره مؤخراً دورات امنية مكثفة أشرف عليها مدربين سوريين وإيرانيين (كذا)».
هذه «المعلومات» تُعامَل بجدية في الرياض، فيرسلها وزير الخارجية سعود الفيصل إلى السفارة في لبنان، طالباً تزويده بمعلومات عن وهاب وحزبه. وبعد نحو شهرين، ترسل السفارة تقريراً عن وهاب، لتجيب الخارجية بوجوب «الحذر منه». كان ذلك قبل 7 أشهر من تلقي الملك السعودي رسالة من وهاب، ثم تحسّن علاقة الأخير، نسبياً، بالسعودية.
التقارير الاستخبارية عن لبنان وسوريا، تكاد لا تخلو من اسم أحمد جبريل، قائد «الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة». فهو الذي سلّم المتفجرات والأسلحة لوهاب. وهو الذي ايدرّب المعارضين الخليجيين بقرار إيراني ــــ سوري في معسكراته «في دمشق واللاذقية»، بهدف «إثارة الاضطرابات في دول الخليج وإعدادهم لتكليف خلايا نائمة». وهو الذي يساعد حزب الله والحرس الثوري الإيراني على «إنشاء قواعد عسكرية جديدة في لبنان، على امتداد 40 كلم من جبال رياق في البقاع على حدود عرسال الواقعة على الحدود السورية». لم يخبر أحد الاستخبارات السعودية بأن رياق تقع في سهل منبسط ولا جبال فيها. لا يهم، وخاصة إذا وردت «المعلومة» في تقرير يقول إن حزب الله كلّف أحد عناصره بالمسؤولية عن «مناطق الأرز ــ بشري ــ عيون السيمان بهدف إقامة قواعد عسكرية لحزب الله والحرس الثوري الإيراني، وهناك اتصالات يجريها المذكور مع بعض وجهاء بلدات جبال عكار مثل فنيدق وعكار العتيقة لتأمين الحماية لتلك القواعد العسكرية». وبكل جدية وثقة، يقترح مدير الاستخبارات السعودية على الملك التواصل مع الدول الغربية، وخاصة فرنسا، لمنع حزب الله من إقامة هذه القواعد.
معلومات الاستخبارات السعودية الفائقة السرية والاهمية والموثوقية، لا تتوقف عند هذا الحد. ففي تقرير صادر عام 2012، يقول مقرن إن معلومات توفرت لديه عن «قيام حزب الله بعقد اجتماع يوم الخميس الموفق (كذا) 3/7/1433 هـ لمناقشة الوضع في سوريا وموضوع اللبنانيين المختطفين على الأراضي السورية. وقد نتج عن هذا الاجتماع قرار استهداف المواطنين السعوديين والقطريين المتواجدين على الأراضي اللبنانية خصوصاً الشخصيات المهمة منهم». وبناءً على هذه المعلومات، يقترح مقرن بن عبدالعزيز على ملكه إصدار بيان تحذيري للمواطنين السعوديين بمغادرة لبنان وعدم السفر إليه، ورفع مستوى الحيطة والحذر في السفارة، وفضح «مخطط حزب الله» في الإعلام و»الإيعاز لوسائل الإعلام الموالية لقوى 14 آذار في لبنان بطرح هذه القضية من أجل تعرية حزب الله ومخططاته أمام الرأي العام العربي والدولي».
في المحصلة، لا تكشف وثائق ويكيليكس حصراً حقيقة أن آل سعود لا يجيدون سوى دفع الاموال لشراء الذمم، وتبذيرها في غير مواضعها الصحيحة، بل تُبرز أيضاً، بوضوح، مدى الاهتراء الذي تعاني منه أجهزة النظام. اهتراء يجعل محمد زهير الصديق مثالاً أعلى للاستخبارات العامة في السعودية. ومجدداً، لا حيلة امام النظام السعودي سوى في شراء مجموعات القتل، من نيكاراغوا الى بئر العبد وأفغانستان، وصولاً إلى سوريا.