كثيرة هي المذابح والمجازر التي وقعت بحق السوريين، في أكثر من مدينة أو قرية، وعندما كانت تأخذ طابعاً طائفياً أو مذهبياً للدلالة على أنّ الذين نفذّوها إنما هم ينطلقون من مبدأ طائفيّ ومذهبي بحق مواطنين آمنين، كان يتمّ صرفها عند الكثيرين على أنّها وقعت بحق موالين «للنظام»، كانوا يمارسون «التشبيح» بحق أبناء المدن والمناطق الأخرى، إشارة إلى أنّ من وقع عليهم مثل هذا التنكيل والقتل والسلب إنّما هو أمر مشروع في ظلّ «حرب أهلية» تعيشها سورية!
إنّ كلّ هذه المذابح والمجازر وعشرات المدن والقرى المحاصرة منذ سنين، تحت عناوين دينية وطائفية ومذهبية، والذي يتمّ على مرأى من عين العالم ومن عين إدارته الدولية، أعني بها الأمم المتحدة، لم يوقع الدولة السورية في فخ الدخول إلى المعادلة الدينية والطائفية والمذهبية التي كانت تُدفع لها دفعاً بغيضاً، فقد تعاملت دائماً وأبداً على أنّ ما يحصل على مستوى جغرافيا الوطن السوري إنما هو عدوان على السوريين كلّ السوريين، مع فهمها الكامل لطبيعة وتفاصل بعض المناطق، حيث أنّ هناك مناطق بعينها لم تُجر أو تُسحب كي تكون مشروع حاضنة لمواجهة الدولة، في حين أنّ هناك مناطق أخرى وقعت في هذا الفخ، وقد شكلت حاضنة هامة بهذا المعنى، بالتالي فإنّ المعادلة لدى الدولة بقيت في عناوين محدّدة بعيدة عن المعنى الطائفي والديني الذي أرادت أن تلعب عليه قوى العدوان، وأمّنتها تحت عنوان كبير ووحيد، يقوم على من هو مع الوطن ومن هو ضدّه.
هذه معادلة هامة لعبت عليها الدولة السورية، ورسّختها في مواجهة معادلات أخرى أرادت أن تدفع بها إلى عناوين ومواقع مختلفة، حين أمّنت على بعض المدن والمناطق التي لم تقع في فخ الحاضنة المعادية لمؤسسة الدولة، وقامت بفتحها والعمل عليها باعتبارها جزءاً من جغرافيا «المجال الحيوي للدولة»، وهو المجال الذي أبقت عليه آمناً لكنها في الآن ذاته دفعته كي يكون جغرافيا جامعة لكلّ السوريين، ففي مدينة اللاذقية على سبيل المثال أو مدينة طرطوس السوريتين واللتين كان يجب أن تكونا مسرحاً هاماً جداً لمشهد أساسي من «حرب أهلية» كانت تسوّق لها أطراف العدوان، حافظت الدولة عليهما كمناطق جامعة وكاشفة وآمنة وفّرت بنية تحتية لسقوط معنى «الحرب الأهلية» المزعومة، فأبناء حلب وحماة وإدلب ودرعا ودير الزور والرقة وآخرون لم يجدوا مكاناً آمناً كمحافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين، وهم الهاربون من أماكن ومناطق طالما تمّ الحديث عنها على أنّها مناطق «حاضنة الثورة»، والسؤال الهام في هذا المشهد الرئيسي والذي أسقط عناوين كبيرة جداً كانت تبيّت لها أطراف العدوان: كيف يهرب هؤلاء المواطنون من مناطق «حاضنة الثورة» إلى مناطق يُشاع على أنّها مناطق «حاضنة النظام»؟
لقد أسقطت مؤسسة الدولة السورية في إحدى رئيسيات استراتيجيتها لمواجهة العدوان عليها هذا المعنى عندما أمّنت إلى حدّ بعيد هذه الجغرافيا ولم تقدّمها على أنّها «حاضنة النظام»، وإنّما قدّمتها باعتبارها مناطق سورية آمنة، وكلّ السوريين الذين مسّهم الضرر في مناطقهم لجأوا إليها باعتبارها كذلك: مناطق سورية آمنة، وجغرافيا سورية آمنة، وهو ما أسقط جزءاً واسعاً من معادلة ما سُوّق له على أنّه «حرب أهلية»!
لم تقع الدولة في فخ المذابح والمجازر التي وقعت تحت عناوين طائفية ومذهبية، كون أنها لم تقدّمها كذلك، ولو أنّ هذا الأمر كان يمكن أن يساعدها على إدانة مشروع العدوان ذاته، وكشفه أمام الرأي العام العالمي وحتى أمام الرأي العام السوري الداخلي. فقد أبقت على المعادلة التي ذكرناها آنفاً، وهي المعادلة التي ترسّخ أنّ هذه المذابح وتلك المجازر إنّما هي مذابح ومجازر بحق السوريين، علماً أنّها كانت تدرك جيّداً أنّ هناك مواطناً كان قادراً إلى حدّ بعيد على فهم الحاصل من دون تقديمه في الشكل الذي أرادته أطراف العدوان ذاتها.
إنّ استراتيجية الدولة تلك كانت رئيسية وهامة جدّاً في ردّ العدوان وإسقاط أهدافه، ولم تسمح له بتجزئة المشهد والدخول في تفاصيل أزقة وحارات مذهبية ودينية وطائفية، كان يمكن لها أن تأخذ هذا المشهد باتجاهات عدة تخدم أهداف العدوان في إحدى أهمّ عناوينه.
من هنا جاء فهم الحاصل في كلّ تلك المذابح والمجازر على أنّها تقع على مواطنين سوريين، من دون وصفهم أو اعتبارهم أو وضعهم تحت أيّ عنوان آخر، والحقيقة أنّ كلّ تلك العناوين قد تمّ النيل منها، فلم يبق مكوّن مجتمعيّ أو جغرافيّ سوريّ إلا وكان تحت سيف القتل، الأمر الذي يدفعنا إلى فهم الحاصل في محافظة السويداء السورية على أنّه غير معزول عمّا حصل في مناطق سورية أخرى، فالدولة تعاملت معه على هذا الأساس ووفق تلك المعايير، فالسويداء محافظة سورية وأهلها مواطنون عرب سوريون، وأي عنوان آخر إضافي إنما هو عنوان خادم للعدوان وميسّر له، فما وقع على السويداء وقع على كلّ المحافظات الأخرى، وما فعلته السويداء وأهل السويداء لجهة الدفاع عن أرضهم وعرضهم كان يأتي في السياق نفسه الذي دافعت فيه مناطق سورية أخرى، وهو ليس خارج المشهد أبداً، إنما هو منه ومن مادّته الرئيسية ومعادلته التي قلنا إنّ الدولة رسختها ونمّتها ورعتها باتجاه عناوين واضحة لا لبس فيها.
أهل السويداء فهموا اللعبة منذ وقت مبكر، وكنت على تواصل مع جزء واسع من نخبها ومثقفيها ومسؤوليها، وهم الذين شكّلوا ملجأ هاماً لأهلهم في محافظة درعا، حيث أنّ عشرات الآلاف ممّن فرّوا من محافظة درعا جاؤوا إلى السويداء طلباً للأمن والآمان، بالتالي فإنّ درس السويداء وازن ورئيسي في معادلة الدولة وفهم الدولة لطبيعة الحاصل، ولن يكون كما حاول البعض، عالماً أو غير عالم، تسويق السويداء تحت عنوان طائفي ضيّق ومقيت لن يخدم أحداً بمقدار ما يخدم أطراف العدوان وداعميه.
من أراد أن يدافع عن السويداء وأهل السويداء عليه أن يدافع عن سورية وأهل سورية، لأنّه لا دفاع عن السويداء إلا بالدفاع عن سورية، وأيّ دفاع عن السويداء في معزل عن الدفاع عن سورية إنما هو معنى يصبّ أخيراً في المعاني التي وقع من أجلها العدوان على سورية وليس على السويداء!