أبصار الأرثوذكس المشارقة رانية إلى المجمع الأنطاكيّ المقدّس المنعقد برئاسة البطريرك يوحنّا العاشر يازجي في دير البلمند. ترنو أبصارهم إلى تلك التلّة الساطعة ببهاء الإيمان والمعرفة والثقافة، وقد شاء المثلّث الرحمات البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم أن يزرع شجرة العلم بجامعة لم تعد محصورة في الكورة الخضراء، بل أمست في سوق الغرب، يقينًا منه وكما قال مرّة بأنّ الحجر ينطق بتاريخنا. فالحجر صار جزءًا من تكويننا وليس منفصلاً عن ذاتيّتنا في جوهرها وعمقها ورؤيتها. وإذا ما تكلّم البطريرك الراحل هزيم عن الحجر فإنّما قصد الإنسان المشرقيّ، ذلك أنّ الحجر ما كان له أن ينطق بلا إنسان ولد من مسيح سكب هذا العمق فيه وجعله أمينًا على هذا التراث. فالمسيح في تراث الأرثوذكسيين هو مشرق المشارق.
في القدّاس الذي رأسه البطريرك يوحنّا في دير سيّدة البلمند، قال كلامًا واضحًا: "ليس من انفصال بين الأرثوذكس والعلمانيين، والمجمع سيستكمل البحث في مسألة النقاط الصادرة عن لجان المؤتمر الأنطاكيّ المقدّس"... من الواضح أنّ لاهوت الكنيسة الأرثوذكسيّة في إطاره الكنائسيّ ليس فيه انفصال ما بين الإكليريكيين والعلمانيين، فمسألة العلمانيّة تسرّبت إلى الكنيسة من الثورة الفرنسيّة الكبرى.
التجويف الذي خبرناه في أساسه، انطلق من السعي للفصل بين فريقين خلال مجمع أنطاكيّ انعقد في دير سيدة صيدنايا البطريركيّ، سنة 1973، وفيه تمّ إلغاء العمل بالمجالس المليّة (أي قانون 55)، وقد كان أعضاؤها المنتخبون بمعظمهم شركاء في العمل الكنسيّ وظلّ هذا سائدًا حتّى تمّ انعقاد المؤتمر الأنطاكيّ الأخير في البلمند في حزيران الماضي سنة 2014، وصدرت التوصيات بتفعيل المشاركة ضمن أطر استراتيجيّة كاملة ومنتجة، تؤكّد بأنّ الأرثوذكس هم واحد في الإيمان والعمل، والإيمان يبقى في جوهره مصدر المشاركة.
الطامة التي واجهتها الكنيسة خلال تلك الحقبة الزمنية منذ سنة 1973 إلى الآن ليست محصورة في مسألة التغييب التي حصلت بل بالهدف من هذا التغييب، فشعر عدد كبير من الأرثوذكس بأنّهم مغيّبون غير معنيين بكنيستهم وحراكها الروحيّ والمؤسساتيّ. تلك مسألة خطيرة، والأخطر من ذلك أن بعض الأدبيّات ركزّت في جعل عناوين التغييب ايديولوجيّة وسكبتها في قالب لاهوتيّ، بظنّ كبير أنّ العلمانيين هادفون لسلب ما يعود للإكليريكيين، والحقيقة التي لا يمكن إغفالها على الإطلاق، أنّ الإكليريكانيّة كمبدأ تحوّلت بصورة جذريّة إلى عمل استئثاريّ خال من الموضوعيّة العادلة، تملك القدرة بسياقات لاهوتيّة مصطنعة حاوية على الكثير من الاجتهاد، على تحويل الفصل بين مجموعتين إلى نأي ورذل وقد نجحت نجاحًا باهرًا بذلك. تلك السياقات اللاهوتيّة أضحت مع مرور الزمن نوعًا من إيديولوجيا قابضة في إطار مؤسساتيّ مقفل أو مغلق وبمدى حروفيّ مقلق، فيبدو المؤمنون في غربة حقيقيّة عن كنيستهم والمؤسسات المتفرّعة منها، سواء كانت طبيّة أو تربويّة أو اجتماعيّة.
خطورة الأمر لا تنحصر فقط في ماهيّة المشاركة، فهي واجبة الوجود، والسيد البطريرك أعلنها بالفم الملآن، وهو في غير مناسبة أكّد على أنه مستعدّ لتأمين أطرها بأوسع المعايير الممكنة. غير أنّ الهمّ يتجلّى بالمعاني الجوهريّة المؤلّفة لمضمون الوجود الكامل سواء بفرادة الحضور الأرثوذكسيّ أو بدوره بتمايزه وبوحدته مع بقيّة المسيحيين. الأرثوذكسيون مستقلّون من ناحية الخصوصيّة والفرادة، أي من ناحية الذاتيّة بعيدًا عن أيّ نرجسيّة تمسّهم، ولكنّهم بدورهم جزء كبير من المدى المسيحيّ المشرقيّ الباحث عن ذاتيّة مشتركة في مشرق ملتهب ومتخبّط، ضمن فضاء مشترك مع المكوّنات الأخرى. والأساس في عمق هذا المضمون، أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة لا يمكن وبعد كلّ التفاصيل الناشئة والعاصفة في الإقليم الملتهب، وبعد التعرّض لمناطق وأديرة وقتل كهنة وخطف مطرانين، أن تبقى معصومة عن القلق السياسيّ-الوجوديّ الكبير، وقد دلّت الخبرة في بعض التفاصيل، بأنّ الدبلوماسيّة الناعمة في التعاطي مع ملفّ دقيق كخطف المطرانين بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم، لم تؤت ثمارها على الإطلاق بل جاءت بنتائج عكسيّة تؤكّد عقمًا كبيرًا سائدًا، عند بعض من لفظوا هذا المبدأ أو تبنّوه. فقضيّة المطرانين تعني الأرثوذكسيين ككنيسةٍ وطائفة، وهي تعني في الوقت عينه المسيحيّة المشرقيّة، والبيان الصادر عن القمة المسيحيّة الروحيّة في دمشق كان بإمكانه أن يحدث الدويّ الواسع بمضمون أقوى وأفعل.
لذلك إنّ الكلام القائل بأنّ الأرثوذكس "طائفة اللاطائفيين"، قد أجهضه الواقع المعاش بالمعنى السياسيّ والوظائفيّ. لم يعد هذا القول خادمًا للمعنى المنشود ألا وهو "المواطنة"، وقد كان هذا المبدأ متفقًا عليه في خطوط عريضة وآفاق واسعة على كافّة المستويات. الأرثوذكس طائفة لها جذورها بالمعنى الزمنيّ والسياسيّ، وهم بغالبيّتهم السّاحقة توّاقون للولوج إلى مواطنة شريفة وكريمة في لبنان، بأطر علميّة ودستوريّة بعدما سقطت مقولة إلغاء الطائفيّة السياسيّة باستفحالها عند الطوائف الأخرى، واستيلاد بعض المراكز العائدة للأرثوذكس واستطرادًا للمسيحيين من رحم الطوائف الأخرى، فبات لزامًا على الأرثوذكس في لبنان ودنيا العرب وفي المدى المنظور أن يتبنّوا بالحدّ المعقول الخيار الطائفيّ في إطاره المتوازن وليس المتلاشي، وقد أبان "اللقاء الأرثوذكسيّ"، مع كاتب هذه السّطور، بأنّ الطريق نحو إلغاء الطائفيّة السياسيّة تمرّ بالحلّ الطائفيّ على قاعدة معالجة الطائفيّة المتلاشية والفوضويّة بطائفية متوازنة، وهذا هو صلب الميثاق اللبنانيّ، وجوهر الديمقراطيّة التشاركيّة حيث الأرثوذكس في لبنان معنيون بها.
بالعودة إلى واقع الكنيسة الأرثوذكسيّة الداخليّ، أي على مستوى الأبرشيّات، ثمّة نقد صريح يجب أن يظهر للعلن ولو للمرّة الأولى وبلا خجل. في اللاهوت الأرثوذكسيّ المتداخل بالإطار التنظيميّ، الأسقف في الأبرشيّة أب لها إلى المنتهى، غير أن سؤالاً جوهريًّا وبنيويًّا وموجعًا لم تواجهه الكنيسة الأرثوذكسيّة لا في العالم ولا في أنطاكيّة، ماذا يحدث في حال بلغ الأسقف مرحلة الغياب العقليّ والواعي عن أبرشيّته، ما هو مصير الأبرشيّة، بأيّ طريقة تتمّ إدراتها بكهنتها ورعاياها، بأموالها وأملاكها ومؤسساتها لا سيّما أن ثمّة من يستغلّ عجز بعض الأساقفة دون أيّة مسوّغات قانونيّة واضحة للانقضاض على محتوياتها؟ للمرّة الأولى ينبغي على آباء المجمع الأنطاكيّ المقدّس أن يتصدّوا لهذه الحقيقة المرّة ويضعوا الإصبع على هذا الجرح البليغ، وقد بدأت الفوضى تصيب بعض الأبرشيّات، نظرًا لعجز أساقفتها عن إدراتها والوقوف عند حاجاتها. التصدّي يتطلّب قرارات جريئة بكلّ ما للكلمة من معنى.
لقد بدأ السيّد البطريرك يتحسّس هذا الواقع، وبدأ بمعالجته بدءًا من أبرشيّة بغداد والكويت. والبطريرك يوحنّا بما يمكن إدراكه عنه، مؤمن بالحداثة وهو رجل نهضويّ بكلّ ما للكلمة من معنى ويملك الطاقة الهائلة للولوج نحو وثبات مضيئة. هذه المسألة تبقى غاية في الخطورة إذا استمرّت الأمور على هذا التدحرج الإداريّ الخطير. وقد رأى بعض الخبراء ضرورة الاستفادة من خبرة الكنيسة الكاثوليكيّة في هذا المضمار، في استحداث سنّ للتقاعد. لا يسوغ على الإطلاق أن تتلاشى بعض الأبرشيّات في تلك الفوضى والتي يستفيد منها كثيرون بصورة مشبوهة وخالية من الروح المسيحيّة والإنجيليّة.
أعين الجميع شاخصة نحو النتائج المرجوّة من هذا المجمع، من الأمور البنيويّة إلى علاقة الكنيسة بالمشرق سواء في لبنان أو سوريا. وفي كلّ السياقات المرسومة الأساس أن يبقى وجه المسيح مضيئًا بنوره فوق هضاب المشرق من تلّة البلمند في الكورة الخضراء.