لم نقنع يوماً أنّ العدوان على سورية كان نتيجة أزمة سياسية في ما بين السوريين، مع إيماننا المطلق بأنّ هناك ملاحظات مهمة على كثير من العناوين التي تخصّ خريطة وبنية الدولة، والتي تتطلب مزيداً من التركيز عليها، كي يتمّ تجاوزها والبناء بعيداً منها، منها ما هو سياسي أو اقتصادي، ونعتقد أكثر أنّ هناك جزءاً منها كان لا بدّ من أن يتمّ تجاوزه منذ فترة زمنية، وهذه كلها عيوب يمكن أن يتمّ التعامل معها وفق هذا المعنى وهذا الفهم الدقيق لها، لكنها لم تكن عناوين أساسية حتى تكون الدولة، وهو ما كنا نؤكده دائماً وفي أكثر من محطة أو لحظة سياسية مرّت بها البلاد.
وكنّا نفرّق أيضاً بين أزمة أدّت إلى عدوان وبين أزمة نشأت على أكتاف عدوان، إذ أنّ الكثيرين أرادوا أن يركّبوا أزمات أو يتخيّلوها كي يقولوا أخيراً بأنها هي التي دفعت البلاد كي تصل إلى ما وصلت إليه، في حين أنّنا كنّا نرى ونؤكد دائماً أنّ الدور الذي لعبته الدولة السورية، إقليمياً ودولياً، هو الذي أدّى بها كي تكون تحت مطرقة هذا العدوان، وهذا لم يكن ناجزاً في سياق التحليل بمقدار ما كانت مواقف وتصريحات كانت تصرّ عليها قيادات أميركية وغير أميركية، لجهة الدور الذي كانت تلعبه سورية، خصوصاً في العناوين التي تتعلق بالتحالف بينها وبين الجمهورية الإسلامية، إضافة إلى وقوفها إلى جانب المقاومة في فلسطين ولبنان، ثم لكونها كانت رئيسية في فعل استعصاء حال دون تمرير مشروع تطبيع كان يجري العمل عليه على مستوى المنطقة مع كيان الاحتلال، حيث كان مطلوباً من سورية أن تكون في السياق ذاته الذي أوجد أو أنتج «كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو».
بهذا المعنى كان واضحاً أنّ الدولة السورية كانت مقصودة بالعدوان من أجل التراجع عن الدور الذي لعبته، لكن مشروع العدوان لا يمكن له أن يكون أو يمرّر على أساس هذه العناوين، إذ أنّ وعيّاً جمعيّاً لا يمكن له أن يستثمر أو يستغلّ أو يحرّك تحت هذه المعاني، لهذا كان مطلوباً البحث عن عناوين أخرى يمكن أن تحرّك وجدان الناس وتخرجهم عن حالتهم الطبيعية، باتجاه حالة يمكن استثمارها ضدّ الدولة وبنيتها، وبالتالي أخذها باتجاهات مختلفة عمّا كانت تسعى له وإليه وعلى مدار عشرات السنوات.
لقد قام العدوان بهذا المعنى الحقيقي بعيداً ممّا حاولت أطراف العدوان ذاتها أن تصدّره، بخاصة في ما كان يتعلق بالحرية وحقوق الإنسان، وصولاً أخيراً إلى خطاب ديني وطائفي ومذهبي، عُوّل عليه كونه كان قادراً على أن يرفع درجة حرارة الوجدان الجمعي لدى جزء من المواطنين السوريين، وبالتالي دفعهم كي يكونوا الأداة الرئيسية التي سوف تتطوّر في ما بعد كي تخرج على الدولة ومؤسساتها.
كان لا بدّ لمشهد العدوان أن يتطوّر نتيجة حالة الصمود التي أبدتها الدولة السورية، من خلال مؤسساتها التي امتلكت طاقات مهمة ومذهلة إضافة إلى تمرين رئيسي في المواجهة راكمته محطات تاريخية سابقة، ومواجهة بقيت مفتوحة مع كيان الاحتلال، أدّت جميعها إلى الضغط على العدوان كي يبحث عن أدواته على الأرض، السياسية والعسكرية، وبالتالي فقد كان مطلوباً في مراحل متعدّدة أن يصرف السياسيون ما يمكن أن يحققه العسكريون على الأرض، وهو ما دفع بأطراف العدوان أن تبحث عن عناوين جديدة تناسب لحظة الصرف تلك، وهو ما أطلقت عليه «بالحلّ السياسي»، و»الحلّ السياسي» بهذا المعنى هو عملية سياسية تحاول أطراف العدوان من خلالها أن تسقط الدور الذي تلعبه الدولة السورية، من خلال دفع أدوات سياسية لها كي تكون موجودة وحاضرة في البنية الرئيسية للدولة، الأمر الذي يساهم أخيراً في تعطيل هذا الدور، تحت مسمّيات عديدة، وهو ما تنبه له البعض ممّن أطلق عليهم «معارضة سورية»، عندما أرادوا أن يؤكدوا وبشكل علني على أنّهم سيؤدّون المطلوب أميركيّاً، من خلال المدعو «برهان غليون» عندما قال بأنهم عندما يصلون إلى السلطة في سورية سوف يقطعون العلاقات مع إيران ويقطعون العلاقات مع المقاومة وبأنّهم سوف يذهبون إلى تسوية مع «إسرائيل»!
لم تستطع قوى العدوان أن تصمد كثيراً، ولم يعد بإمكانها أن تصل إلى ما كانت تريد أن تصل إليه، كون فائض قوة العدوان على المجتمع السوريّ، إضافة إلى قدرة الدولة السورية على تظهير هذه القوة باعتبارها قوة سالبة، كما أنّ القدرة على تصريف وإفراغ محاولات العدوان في لحظات رئيسية، كلّ هذا حال دون إمكان أن تصرف أطراف العدوان أيّ منجز إيجابياً لأدواتها في العسكرة ميدانياً، وهو ما جعل أدواتها في السياسية لا تجد بين يديها ما تبني عليه، الأمر الذي أدّى أخيراً إلى سقوط إمكان «تفخيخ» جسد الدولة بأدوات قادرة على التأثير سلباً على دور الدولة المستهدف أصلاً.
هذه اللحظة الجديدة وهي لحظة مهمة لجهة أنّ احتمال التأثير قد سقط، وبالتالي فإنّ الأدوات التي كان معوّلاً عليها أن تحمل هذا التأثير على الدولة قد تمّ التخلي عنها، بمعنى آخر يمكننا القول بأنّ الأدوات التي كانت تشكل رافعة «الحلّ السياسيّ» لم تعد قادرة على التأثير في الدولة السورية باعتبار أنّ ناتج الميدان لم يؤثر بالمعنى الحقيقي على بنية الدولة، وهو الأمر الذي أدّى أخيراً إلى تراجع العلاقة بين أطراف العدوان الرئيسية وبين الأداة السياسية التي بدت تتصدّع وتتآكل وتأخذ أشكالاً مختلفة، في ظلّ البحث عن مقدّمات طالما كانت مرفوعة في السنوات الأولى للعدوان.
لم يعد بمقدور الأميركي أن يبني على «معارضة» لم تعد قادرة أن تلبّي له مشروعه، أو تمرّره، كما أنّ قوى رئيسية أوروبية أخرى ذهبت في هذا الاتجاه، وتُركت هذه الأدوات لاستعمال محلي إقليمي تحاول قوى إقليمية أخرى الاستثمار فيها، باعتبار أنّ اشتباكها لما يزل قائماً نتيجة تصفية حسابات محلية إقليمية، وهو ما دفع الإدارة الأميركية أخيراً إلى تسجيل موقف معين من بعض أسماء «معارضة» طالما كانت تستعملها وتدفعها كي تكون المسؤولة والممثلة للشعب السوري.
القيادة السورية تدرك المرحلة التي وصلت إليها أطراف العدوان، وتفهم أكثر أنّ المنجز الميداني لم يعد معياراً حقيقياً للاشتباك الذي كانت تعوّل عليه هذه الأطراف، لا بل أكثر من ذلك، فقد ذهبت القيادة السورية إلى إنتاج خريطة أمنية مركبة ومعقدّة، لا يمكن لأطراف العدوان إلا البحث معها عن مفاتيح مشتركة لإعادة إمكان تبريد المنطقة ومفاصل مهمة من العالم، وهو الأمر الذي سيدفع هذه الأطراف وعلى رأسها الاستخبارات الأميركية للبحث مع استخبارات حلف «دمشق طهران» تجاوز الكلام السياسيّ حول «حلّ سياسيّ» للحاصل في الداخل السوري وللبحث بجديّة كاملة عن «حلّ أمنيّ» يحفظ لها الحدّ الأدنى من مصالحها على مستوى المنطقة.