تدرك «مملكة آل سعود» أنّ عدوها التاريخي لا يتمثل في كيان الاحتلال الصهيوني أبداً، لأنّ هذا الكيان قام أساساً بصفقة مرّرت من خلال قيام «المملكة» وبقائها، خصوصاً إذا ما عدنا إلى المعنى الحقيقي الذي تبني من خلاله «المملكة» فهمها لعناوين مثل العروبة أو الإسلام، فالعروبة بالنسبة لها موجودة من خلال وجود «المملكة»، كما الإسلام فهو قائم من خلال قيامها أيضاً، وهذا أمر كان واضحاً تاريخيّاً، ومن خلال محطات سياسية معروفة، فلم يعن «المملكة» يوماً شيء مثلما كان يعنيها أمن «العرش الملكي»، مهما كانت التبعات أو كانت الملحقات…
لقد واجهت «المملكة» صعود «حركات التحرّر العربي»، حيث وقفت في وجه جمال عبد الناصر، ثم وقفت في وجه كل الثورات التي قامت في العالم العربي، خصوصاً تلك الثورات التي كانت تحمل مفهوماً أو عنواناً قوميّاً، وكانت ذات صبغة سياسية تحاكي مفهوم «الدولة الوطنية»، حيث وجدت في هذه الدولة تجاوزاً يمكن أن يساهم في التأثير على «العرش الملكي»، فهي لم تقم علاقة مستقرة أو ضامنة إلا مع الدولة التي منحتها مشروعية وجود وبقاء «العرش الملكي»، من هنا نشأ مفهوم «مجلس التعاون الخليجي»، باعتباره مفهوماً قائماً على رئيسية داعمة لمعنى «العرش» وضامنة له، بفضل وجدود الأنظمة المتآلفة والتي تحاكي بعضها بذات الشكل السياسي الذي حكم كلّ مكونات هذا «المجلس».
لا يمكن «للعرش الملكي السعودي» أن يستقر بعيداً عن ثنائية طالما اشتغل عليها طويلاً، وهي المشروعية السياسية التي تستمد وجودها وحضورها من مشروعية دينية، باعتبارهما ثنائية هامة لاستمرار هذا العرش وبقائه، فلا يوجد مؤثر سالب على وجود «العرش» إلا بما يؤثر سالباً على المعنى الديني لوجود «العرش»، بمعنى آخر إنّ «العرش الملكي السعودي» يستمد وجوده وبقاءه من عنوان ديني رئيسي، وهو العنوان الذي يمنحه أخيراً شكله السياسي التاريخي، لذلك جاء التركيز على «خادم الحرمين الشريفين» مقدماً على أيّ معنى آخر، وهو ما تدافع عنه «المملكة» في إحدى أهم مواقع وجودها وبقائها.
لم تعترض أيّ قوة على وجه الأرض على هذا المعنى، ونعني به: «خادم الحرمين الشريفين»، على العكس تماماً، فقد كانت كلّ قوى الأرض تدفع باتجاه هذا المعنى، طالما أنّها ترى فيه مدخلاً أسياسياً ورئيسياً للوصول إلى علاقات طيبة ضامنة لمصالح هامة تسعى لها هذه القوى، وبالتالي لم تتشكل قوّة منازعة على هذا المعنى أو هذا العنوان، بالمعنى الديني والتاريخيّ.
تدرك «المملكة» أنّ التأثير عليها لن يكون مدخله سياسياً، بمقدار ما سوف يكون دينيّاً، كون أن المعنى الديني، أو العنوان الديني، هو الذي سوف يساهم سلباً على المعنى الديني لقوة «العرش» وبقائه، وهذا ما جعلها تقف في وجه الثورة الإسلامية في إيران، «فالمملكة» تدرك تماماً من خلال سدنة «العرش الملكي» أنّ الثورة الإسلامية في إيران طالما أنّها رفعت معنى دينيّاً يحاكي مفاهيم وعناوين دينية تاريخية، فهي التي سوف تأتي بنهاية «العرش»، خصوصاً أنّ المعنى الديني الذي يعتمد عليه «العرش الملكي» غير مسنود بثقل ديني حقيقي أو وازن تاريخي ديني يحمل مشروعية دينية قادرة على أن تصمد في وجه ما قدّمته الثورة الإسلامية لجهة المعنى التاريخي الديني، خصوصاً ما يتعلق بمفهوم «آل البيت»، ولا نعتقد أنّ الخطورة التي حملتها الثورة على «العرش الملكي السعودي» تتمثل في كونها ثورة تقوم على عنوان مذهبي معين، بمقدار ما أنّ خطورتها تمثلت في أنّها تستمد هويتها من مفهوم عميق وجليل في العقل والتاريخ الإسلامي، ونعني به مفهوم «آل البيت»!!..
فالعنوان الشيعي للثورة استعملته ورسخته «المملكة» لأنها ترى فيه عنواناً طاغيّاً وطارداً للمعنى الأهم الذي يمكن أن يساهم سلباً في وجود وبقاء «العرش الملكي»، وهو العنوان الجاذب الرئيس، والعنوان الذي ليس بمقدور «المملكة» الصمود أمامه، إذ إنّ الثنائية التي ذكرناها أعلاه خصوصاً في معناها الديني لا تمنح «المملكة» إمكانية التأثير السالب على الثورة أو على مشروعيتها، على العكس تماماً فإن مشروعية الثورة في عنوانها الرئيسي القائم أساساً على معنى ديني هو الذي سوف يزعزع استقرار «المملكة» في معناه الأخير، طالما أنّها قائمة عليه أصلاً.
إن مفهوم «آل البيت» تاريخيّاً كان يوازيه مفهوم آخر لا يبتعد عنه كثيراً، وهو مفهوم يتمثل في خريطة قربى تمنح صاحبها مشروعية المواجهة في وجه من رفع أو يرفع عنوان أو مفهوم «آل البيت»، ونرى في التاريخ خير دليل على ذلك، الخطورة الاستراتيجية بهذا المعنى على «العرش الملكي السعودي» أنّ سدنة «العرش» غير قادرين على مواجهة هذا المفهوم بالمعنى الذي ترفعه الثورة الإسلامية في رئيسية من رئيسياتها، بالتالي كان الأهم بالنسبة لسدنة «العرش الملكي السعودي» أن يقدموا الثورة بمعنى آخر يمنحهم إمكانية أن يجعلوا من أنفسهم أنداداً لحامل الثورة الرئيسي بالمعنى الديني الذي كان يمكن للثورة أن تُصبغ به، وهو العنوان المذهبي أو الطائفي.
إنّ الثورة الإسلامية في إيران في أحد مستوياتها العميقة تقوم على معنى جليل وهو أنّ الثورة ترعاها فضائل «آل البيت» وسلالتهم، بمعنى أو بآخر، والقضية ليست في مذهب بمقدار ما هي في جوهر أو عمق الفهم الديني للوجود أو الحضور الديني الإسلامي العقائدي، وهو الأمر الذي لا تريد أن تصدّره الثورة في شكل واضح، كما أنّ «مملكة آل سعود» لا تريد له أن يمر بهذا المعنى، كونها تدرك تماماً أنها غير قادرة على مواجهته إذا فكرت بذلك.
من هنا يمكن فهم الحاصل الآن على مستوى المنطقة، فالأمر لا يتعلق بصراع «سني شيعي»، أو كما تريد أن تصوره «مملكة آل سعود»، وإنما هو صراع أعمق، إنّه صراع المشروعية على الوجود، فهي تدرك جيداً أن أيّ صعود أو حضور جديد للثورة على مستوى المنطقة يعني في أحد معانيه أنّ «العرش الملكي» يهتز في عمق وجوده، كما أنها تدرك جيّداً أنّ «عرشاً» يقوم على معنى ديني يتعلق بخدمة «الحرمين الشريفين»، ولا يوجد له رافعة تاريخية دينية أو جذر عقائدي حقيقي، في ظلّ وجود ثورة إسلامية تحاكي فلسفة وجود «آل البيت»، وتتكئ على شيء منهم، لا يمكن لهذا «العرش» أن يبقى أو يستمرّ.