أصلُ الفريضَة ما جاء في الآية الكريمة من سورة البقرة (183)يَا أيّها الّذين آمنوا كُتِب عليكمُ الصّيامُ كما كُتِب على الّذين مِن قبلِكُم لَعَلّكُم تــَــتَّقُونَ. يذهبُ العارفون من الموحِّدين مذهبًا دقيقًا إذ لا يكتفون بالوقوفِ عند تفسير "جُملة الرجاء" الأخيرة بأنّها اتـقاء من الطعام والشراب والنساء كما هو منحى معظم المفسّرين، بل يستشعرون معنى الشَّكّ في إقران تحقيق المقصد الذي هو التُّــقى، بالحرف الناسخ "لعلّ" الذي يفيد أيضًا معاني التوقُّع والترجّي في الأمر المحبوب، والإشفاق من المكروه.
هذا المنحى يفرضُ في وجدانهم تشوُّقًا إلى قطف ثمار الأمثل من هذا الواجب الشَّرعيّ عبر امتثال المسلك الذي من شأنه أن يزيلَ عوائق الالتباس في هذا السّبيل. وما يشدُّ عزيمتهم، ويقوّي إرادتهم في بذل الهمَّةِ الحميدة في "جهاد النّفس" هذا، هو ما وردَ في مأثورهم الرُّوحي عن الأهميَّة الجوهريَّة لفضيلة التقوى التي قال فيها السَّلفُ الصَّالح إنَّ فيها "جِماع الخيْر كلّه، وهي وصيّة الله في الأوّلين والآخرين". كما ردّدوا الآيات الكريمة التي منهاإنّ الله يُحبُّ المتَّقينوإنَّما يتقبَّل الله من المتّـقينوغيرها في هذا المعنى الجليل.
كان لا بدَّ لهذه المقاربة أن تفرضَ عليهم موجبات مسلكيَّة مُدرجة في مفهوم شموليّ للصَّومِ ومقاصده الرُّوحيّة. ويتبيَّن في المأثور الاسلاميّ الصَّحيح بوادر ودلالات على هذا المنحى، منه ما جاء في الحديث الشريف: "كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوعُ والظّمأ". ومنه ما ورد عن السيدّة فاطمة: "ما يصنعُ الصّائمُ إذا لم يصُنْ لسانَه وسمعَهُ وبصَرهُ وجوارحهُ؟". ومعنى ذلك أنَّ الإمساك عن الطعام والشراب لوقتٍ معلوم هو ذريعةٌ لغاياتٍ شريفةٍ يتطلَّبُ تحقيقها صومَ كلّ جارحةٍ عمَّا هو مَنهيٌّ عنه في أدب الدِّين وحدوده الشرعيَّة.
هكذا، يعملُ الموحِّدُ العارفُ إلى تحويل "ألم الجوع" إلى "غذاءٍ قلبيّ" ينصرفُ به إلى الذِّكر الحكيم، محاولا قدر إمكانه قطف ثمرات المعاني من لطائف الكلم. ولا غروَ أن يُنسبَ المسلك في بعض وجوهه إلى مؤثّرات إرث التصوُّف الاسلاميّ لما يتبدَّى من كبار الشّيوخ من سمات الورع والزهد، مع العلم أنَّ نفوسهم تأنف من كلِّ غلوّ، وخواطرهم تعتكر من كلِّ خللٍ في ميزان الفضيلة والحدود المؤصَّلة في أمّ الكتاب.
لقد تناقلَ الموحِّدون الدّروز عن سلفهم القديم تقليدًا شريفًا يُعبَّرُ عنه في إحياء ليلة عيد الفطر بالذِّكر حتَّى مطلع الفجر. وما زال "أهلُ الفضل" في "خلوات البيّاضة" الزاهرة ملتزمين به بعيدًا عن كلِّ ضوءٍ إعلاميّ. فالأمر الروحيّ الراسخ في قلوبهم هو أنَّ النيَّة يجبّ أن تبقى مجرَّدة لوجه الله في كلِّ عملٍ يريدُ به الموحِّدُ رضاه، وألا يُداخلها أيُّ شأنٍ آخر، خصوصًا ما يخالف وصيَّةَ الآية الكريمةواذكُر ربَّك في نفسك تضرُّعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدوِّ والآصال ولا تكن من الغافلين، فصوم النّفس عن الميل الجارف إلى المجاهرة والتكلُّف والمباهاة هو أمر مطلوب بالضرورة أيضًا ليكون المرء متَّقيا وفق ما تقتضيه حقائقُ الأمور.
* مستشار مشيخة العقل