في الوقت الذي تتصاعد العمليات الرامية إلى تسعير الشعور الطائفي في المنطقة العربية، وزرع الفتنة والبغضاء في نفوس المواطنين، وتحريضهم ضدّ بعضهم بعضاً، وإيهامهم بأنّ التقسيم قادم لا محالة، تبرز أصوات في لبنان تدعو إلى قيام نظام فيديرالي على أنقاض النظام الحالي الذي تعطلت آلياته وتهاوت مؤسساته لعجز الطبقة الحاكمة وانشغالها بالصراعات الداخلية والمكاسب الذاتية، من دون النظر جدياً إلى ما يحدث من خطوب حولنا، ومن دون الانتباه إلى ما يرسم من مخططات لتمزيق المنطقة وزجها كلياً في آتون الإرهاب والتدخلات الاستعمارية الجديدة.
إنّ الدعوة إلى اعتماد الفيديرالية في لبنان من شأنها إسقاط الميثاق الوطني والإضرار بالوحدة اللبنانية وإدخال اللبنانيين في دوامة التقاسم الافتراضي للأرض والمصالح، فضلاً عن إشعال المشاعر المذهبية وزيادة منسوب التقوقع الطائفي مع ما ينشأ عنهما من توتر وتفكك. فكم من عائلة انسحقت وهي تختلف على الإرث والنفوذ وكم من عائلة تفوّقت على التحديات عندما جدّدت روح التآخي في صفوفها. وإذا كان لبنان قد استطاع في السابق أن يلعب دوراً مميزاً في النهضة العربية وحماية لغة الضاد، فإنما بفضل وعي أبنائه وحرصهم على وحدة البلاد وعروبتها الحضارية التي ترفض التمييز بينهم. واستكمال هذا الدور اليوم لا يكون بطرح الفيديرالية وأخواتها أو التهديد بفرط الميثاق، وإنما بترسيخ وحدة البلاد وتكريس المساواة بين أبنائها ورفع الظلم عن أي مكون من مكوناتها كي نتمكن جميعاً من الحفاظ عليها وسط الزلازل المتنقلة، وكي نستطيع في الوقت نفسه إرسال رسالة واضحة إلى إخواننا العرب، المهددين بكل أنواع الأخطار، انه على رغم نهر الدم والقهر والأحزان الذي يجري هادراً على الأرض فما زالت هناك مساحات واسعة لخيارات التواصل والتماسك بوجه الاحتراب والتقسيم والاندثار. فالمهم أن يبقى اللبنانيون معاً وقت الشدة لأنّ وحدتهم هي الضمانة لحريتهم واستقلالهم، وهي الطريق للصمود والانتصار على الفتنة والغلو والعنف، في حين إن الفرقة بينهم قد تفتح أبواب الجحيم عليهم. وقد علمتنا التجارب إن النار إذا هبت لا تميز بين هذا أو ذاك، وانه يستحيل على أي فريق أن يأخذ من حصة الآخرين من دون تعريض البلاد إلى حريق يطاول الجميع، فمصيرنا مشترك وخلاصنا مشترك مهما داعبت الأوهام مخيلة بعضهم.
وتبقى العبرة الأساسية من كل ما يحدث الآن انه لا يمكن اجتراح الحلول لأزمة مصيرية بالانفصال عن بعضنا بعضاً أو من خلال خيبات الأمل وردود الفعل، وإنما من خلال الحوار والتفكير الموضوعي الهادئ الذي لا يحفل بالمراهنات ولا يقيم وزناً للمهاترات.