يحاكي "خان الافرنج" في صيدا ببنائه الضخم الاثري تاريخ المدينة القديم المفتوح على البحر وحكايات الصيادين اليومية التي لا تنتهي، يجمع في موقعه الجغرافي قبالة ميناء الصيادين وعند حدود المدينة القديمة بناسها الطيبين واسواقها الشعبية عراقة الصيداويين الذين ما فتئوا يحافظون عليه كواحد من الصروح الاثرية التي تشتهر بها المدينة على الواجهة البحرية الى جانب القلعة البحرية، وتكاملا مع القلعة البحرية وخان الحمص وخان الرز والقشلة ومعبد اشمون وسواها.
و"خان الافرنج" الذي تجاوز في السنوات الاخيرة دوره الاثري في جذب السياح العرب والاجانب اليه، تحول ايضا الى مركز للثقافة ومعرض دائم اثر توقيع بروتوكول بين "مؤسسة الحريري" والدولة الفرنسية في العام 1986، يخوّل "المؤسسة" استخدامه لمدة 35 عاما.
تاريخ الخان من تاريخ صيدا
لا ينفصل تاريخ هذا الخان عن صيدا التي تعتبر من أهم المدن العربية الساحلية فهي كمدينة "فاس" في المغرب و"سوسة" في تونس و"صنعاء" في اليمن، اي انها مدينة لا تموت، فيها من الإكتفاء التراثي ما يجعلها مستمرة ومدينة للحياة، وهي منظمة بطريقة سليمة تشقها الممرات من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب وتضم في داخلها المساكن والأسواق والمعابد من جوامع وكنائس عدا عن الخانات والحمامات والزوايا والمدارس والمستوصفات والمقاهي وكل ما يحتاجه المواطن في حياته اليومية، ويحمي هذه الشريحة الإجتماعية قلعتان "القلعة البحرية والقلعة البرية" اللتان فقدتا سورهما الواقي من الغزوات والحروب.
ومدينة صيدا عبر تاريخها عرفت ستة خانات هي: خان "الافرنج"، خان "الرز" و"القشلة القديمة" وخان "المطرانية" وخان "الشاكرية" والخان "الفرنساوي"، ولكن لم يبق منها سوى خانين "الافرنج" و"الرز"، وكلاهما يقع على طرف المدينة القديمة في مكان غير بعيد عن المرفأ، ويطلق العرب تسمية "خان" بمعنى وكالة، وهي كانت نوعا من الفنادق التي تتوافر فيها كل وسائل الراحة المبتغاة، ينزل فيها التجار والمسافرون مع امتعتهم وبضاعتهم، فيمضون الوقت اللازم لاتمام صفقاتهم التجارية.
اقسام الخان ومواصفاته
بنى الأمير فخر الدين الثاني خان "الافرنج"، في أوائل القرن السابع عشر، في حدود عام 1720، أي بعد عودته من منفاه في ايطاليا عام 1718، وهو عبارة عن بناء ضخم مربع الأضلاع والزوايا، طول الجانب منه مئة وخمسون قدما، وقد شيّد على الطراز الشرقي ويدل على النهضة العمرانية التي عرفتها صيدا في عهد فخر الدين ويبلغ طول ضلعه 58 مترا وكان يتوسطه بركة تنفث نافورتها الماء وتحيط بها أشجار وأزهار.
والدخول إلى الخان من باب ضخم عال معقود بأحجار ضخمة، رواق مقنطر مفتوح من الشمال اي من جهة الميناء، وهو فن معماري اسلامي وآخر جنوبي يشرف على ساحة باب السراي حيث تقوم قصور آل معن، فيما كان يوجدسابقا في وسط الخان، حوض أنيق من الرخام جرَّ إليه الماء،وتظلل الحوض أشجار باسقة وشجرات موز كبيرة، وعلى جوانب الساحة الكبيرة تنتشر أروقة مسقوفة ومعقودة تطل عليها غرف عديدة.
يتألف خان الإفرنج من طبقتين، وتبدو عليه معالم العمارة الإسلامية، التي تعتمد على المنحنيات والعقود والقباب، ففيه قبة تعلو مدخله الشمالي، وقبة أخرى تعلو القسم الشرقي من البناء، وكانت الطبقة الأولى من الخان مخصصة لأعمال التجارة لأهمية ما شهده هذا العصر من تبادل تجاري، وهو كان يحتوي على حمامات وإسطبل خاص بالخيول التي كانت ترافق التجار في رحلاتهم. أما الطبقة الثانية منه فكانت مخصصة للنوم وتحتوي على 56 غرفة، صممت نوافذها بشكل هندسي يصلح لان تكون دشما عسكرية للمراقبة في كل الاتجاهات، في حال نشوب حرب.
إختلاف حول الملكية
اختلف المؤرخون حول ملكية الخان، لكن الثابت أن الأمير فخر الدين المعني الثاني بن قرقماز هو الذي بناه، وأهداه للفرنسيين مقابل تقديمات له، ويذكر في هذه السياق أن الجنرال شارل ديغول أقام في الخان عندما زار لبنان عام 1940، بينما يقول جيرار دول نرفال في كتابه "رحلة الى الشرق" وهذا الخان الفرنسي اشبه بمدينة فنحن لم نر اهم منه في سورية كلها، وهذا ما اعتمد على تأكيد ملكيته للفرنسيين".
وفي المقابل، تؤكد بعض الدراسات أن الخان هو وقف إسلامي انتزعته الدولة الفرنسية إبان الانتداب الفرنسي للبنان وقد دعمت آراءها لكنها لم تحسم الامر قطعا، فيما المؤكد اليوم أن الخان مسجل في الدوائر العقارية الرسمية لصالح فرنسا، وقبل أن يتولى الرئيس الشهيد رفيق الحريري رئاسة الحكومة اللبنانية، وقعت "مؤسسة الحريري" بروتوكولا مع الدولة الفرنسية في العام 1986، يخولها على استخدام الخان لمدة 35 عاما وقد نص البروتوكول على إنشاء مكتبة سمعية ــ بصرية، وتنظيم معارض فنية وتحقيق برامج ثقافية وإقامة عروض مسرحية ونشاطات سياحية.
وعلى الأثر قامت "مؤسسة الحريري" بإجراء عملية ترميم واسعة للخان، لتبدأ معها تنظيم النشاطات الثقافية والسياحية والتراثية والفنية، اضافة الى معارض واشغال حرفية وهو يلعب اليوم دورافي إحياء التراث اللبناني وتنمية المواهب الثقافية في الحياة اللبنانية، على قاعدة ان التراث ليس كنزا يعرض، لو حجرا أو لوحة جميلة تركها لنا آباؤنا وأجدادنا، لنفاخر بها أو نتغنى بها، بل التراث قيمة معنوية ووطنية تفوق غالبا كل القيم المادية التي تحملها.
وبهذا المعنى، فقد تحول الخان الى مركز للنشاطات الثقافية على مدار العام، يكتسب خصوصية في شهر رمضان المبارك اذ يتحول الى خلية نحل لاحياء الامسيات الرمضانية واحياء التراث الاسلامي، تكاملا مع عادات وتقاليد ابناء المدينة بالسهر واقامة الليل وصلاة التراويح العبادة.
جولة ومواقف
في جولة ميدانية، يطرق باب الخان العديد من السواح غالبيتهم من الاجانب، يتوافدون اليه كمجموعات في حملات سياحية يجولون في اروقته ويلتقطون الصور، ويقول السائح التركي جئت الى هنا لاستعيد عبق التاريخ واطلع على هذا الفن الراقي، ما زال يحافظ على بقائه رغنم مرور كل السنين.
وتقول السائحة اللبنانية تانيا روكز من منطقة جبيل: "اردت ان ازور معالم صيدا الاثرية ومنها خان الافرنج لما سمعت عنه من تاريخ راق، ضمن زيارتي الى لبنان اذ انني اقيم في احدى الدول الغربية، جميل ان يشعر الانسان بتاريخ بلاده الجميل".
ويقول اللبناني احمد كبارة الذي كان ضمن وفد سياحي من طرابلس ان المشهد رائع، لقد جلت في الخان والتقطت الصورة التذكارية كي تبقى ذكرى خالدة في هذه المدينة العريقة التي تحوي على اثار هامة وهي تشبه كثيرا مدينة صطرابلس بخاناتها وتراثها..
ويشير الصيداوي محمد الصديق، ان المطلوب وضع خريطة سياحية متكاملة لاثار المدينة كي تنتعش السياحة وبالتالي الدورة الاقتصادية لان الدخول الى الخان مجانا خلافا لما هو الحال في القلعة البحرية اي ان المطلوب ان لا يبقى الامر مجرد زيارة والتقاط الصور وشراء تذكار فقط.
كان خان "الافرنج" في صيدا شاهدا على تاريخ هذه المدينة العريقة ولم يزل بفضل اهتمام اهل صيدا بالحفاظ على تراثهم وترميمه والاعتناء به على قاعدة "من لا ماضي له لا مستقبل له".