هو اتفاقٌ تاريخي واستثنائي، لا شكّ، ذلك الذي تمّ التوصّل إليه بين إيران والدول الغربية، وفي مقدّمها الولايات المتحدة الأميركية، وهو الذي تشير كلّ المعطيات إلى أنّه سيكون مفصلياً في تاريخ المنطقة، ويكاد المراقبون يجزمون أنّ ما قبله لا يمكن أن يكون كما بعده، بأيّ شكلٍ من الأشكال..
وإذا كانت التحليلات والتفسيرات لهذا الاتفاق تنوّعت لحدّ التباين، بين من قال أنّ إيران ثبّتت من خلاله نفسها كقوة عُظمى بعدما صمدت بوجه كلّ الضغوط والعقوبات وفرضت على "خصومها" التحاور معها، ومن رأى أنّه قطع الطريق أمام إمكانية صناعتها لقنبلة نووية، فإنّ اللبنانيين "انقسموا" على جري عادتهم في قراءة الاتفاق وانعكاساته المحتملة عليهم، لتبدو "المبالغات" سيدة الموقف عند طرفي الصراع على حدّ سواء!
8 آذار: حفاوة وتفاؤل..
منذ لحظة إعلان التوصّل إلى الاتفاق النووي بين إيران والغرب، بدت قوى الثامن من آذار في لبنان وكأنّها "أمّ الصبي". بحفاوةٍ بالغةٍ وغير مسبوقة، رحّبت هذه القوى بالتوقيع على الاتفاق، لدرجةٍ تفوّقت معها على الإيرانيين نفسها، ما أشعر البعض وكأنّ "الانتصار" الذي تحقّق هو "انتصارها" هي، وأنّها لن تتأخر بـ"قطف ثماره" بشكلٍ أو بآخر.
هذا المنحى أوحت به أيضًا مواقف القوى السياسية المنخرطة في هذا المحور، والتي لم تتأخر عن الإدلاء بدلوها على خطه، من رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون ورئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية، مرورًا بـ"حزب الله" والدائرين في فلكه، وكلّهم تقاطعوا على التفاؤل بأنّ هذا الاتفاق سيجلب السلام إلى المنطقة، وسينعكس انفراجاً على أكثر من خط ومن مستوى.
وترفض مصادر في هذه القوى ما يُقال عن أنّ "نشوة الانتصار" التي أصابت هذا الفريق كان مبالَغًا بها، ولم تأتِ في سياقها الطبيعي، مشيرة إلى أنّ ما حصل هو انتصارٌ حقيقيٌ لإيران، شاء من شاء وأبى من أبى، وأنّه ثبّت المبادئ التي لطالما نادت بها الجمهورية الإسلامية وحلفاؤها، خصوصًا أنّ من تنازل كان عمليًا الفريق الآخر. وتلفت المصادر إلى أنّ التفاؤل الذي أبرزته هذه القوى بأن يمهّد هذا الاتفاق لإيجابياتٍ في المنطقة بشكلٍ عام ولبنان بشكلٍ خاص جاء أيضًا في إطاره الطبيعي، لأنّ أحداً لم يقل أنّه سيحلّ كلّ الأزمات العالقة بـ"كبسة زرّ"، ولكن كلّ ما قيل أنه يمكن اعتباره "بداية حلّ"، خصوصًا أنّه سيجعل الكثيرين من "أصحاب الرهانات" يخفّضون أسقفهم، ويقرأون الأمور بواقعيةٍ أكبر، كما سيفتح المجال لتعميم ثقافة الحوار، بعدما أبعد هذا الاتفاق "شبح" الحرب عن المنطقة عملياً.
14 آذار: هدوءٌ وارتباك...
ولأنّ اللبنانيين "منقسمون" دوماً وأبدًا، فإنّ "حفاوة" قوى الثامن من آذار إزاء الاتفاق النووي لم تجد صدىً مماثلاً لدى سائر الأفرقاء. وإذا كان رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط كان أسرع "المتشائمين" الذين صوّبوا على الاتفاق، وهو ذهب إلى حدّ القول أنّه ينهي العالم العربي، فإنّ حالة من الارتباك والحذر سادت صفوف قوى الرابع عشر من آذار، التي بقي موقفها متأرجحًا وضبابيًا، بانتظار "الترجمة" عمليًا.
وتوضح مصادر في قوى الرابع عشر من آذار أنّ الحكم على الاتفاق لا يزال سابقاً لأوانه، إذ إنّ احتمالات أن يؤدّي لانفجار في المنطقة تكاد تتساوى مع احتمالات أن يؤدّي إلى انفراج، بل إنّ المؤشرات الأولية تنحو صوب الاحتمال الأول، خصوصًا بالنظر إلى "استعراض القوة" الذي بدأ حلفاء إيران بممارسته خلال الساعات الماضية، وكأنّ الاتفاق المذكور سيفرش طريقهم بالورود وسيحوّل كلّ رهاناتهم المستحيلة إلى واقع بين ليلةٍ وضحاها.
من هنا، تعرب هذه المصادر عن اعتقادها بأنّ هذا الاتفاق قد يعقّد الأمور في منطقة الشرق الأوسط ويصعّبها أكثر ممّا يمكن أن يسهّلها، باعتبار أنّ إيران ستكون مرتاحة أكثر على وضعها، وبالتالي، فإنّ تدخلها في شؤون هذه الدولة أو تلك سيزداد تلقائياً بدل أن يضعف، الأمر الذي قد يسبّب إشكالاتٍ جديدةٍ ستؤدي للمزيد من الفوضى والتشتيت، مشدّدة على أنّ كلّ الاحتمالات تبقى واردة، والإيرانيّ وحده من يقرّر في النهاية كيف يستثمر اتفاقه، وما إذا كان يريد فعلاً فتح صفحة جديدة مع المنطقة.
حذار من المتضرّرين!
وبين تفاؤل قوى الثامن من آذار وتشاؤم قوى الرابع عشر من آذار، ترى مصادر سياسية مطلعة أنّ المطلوب قراءة واقعية معتدلة ومتزنة، خصوصًا أنّ الجميع يتلاقى على أنّ الاتفاق لن يجد ترجمة فورية له في الداخل اللبناني، لا على صعيد انتخاب رئيسٍ للجمهورية ولا على صعيد حلّ الأزمات العالقة على كثرتها، وأنّ لبنان لن يتأثر عملياً به سوى ربما على المدى الطويل.
وإذا كان صحيحاً أنّ أيّ اتفاقٍ هو إيجابي، فكيف بالحري إذا كان بين إيران والغرب، فإنّ المصادر تشير إلى أنّ الحذر واجبٌ من المتضرّرين من الاتفاق، والذين قد لا يتردّدون في قلب الطاولة على الجميع، إذا ما وجدوا أنّ الكرة فلتت من أيديهم، وأنّهم سيكونون خاسرين، وهو ما أوحت به المواقف الإسرائيلية والخليجية التي تقاطعت على التصويب باتجاه الاتفاق، واعتبار مصالحهم متضرّرة منه بشكلٍ مباشر.
من هنا، فإنّ الاتفاق الاقليمي ولا سيما السعودي-الايراني، كما تقول المصادر، هو الأساس بالنسبة للبنان، وعليه التعويل الأساسي للوصول إلى حلّ فعلي في الداخل اللبناني على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، لأنّ أيّ حلّ آخر على طريقة "الاستقواء" لن يفيد..
ليتعظ لبنان..
كلّ الاحتمالات تبقى إذاً واردة والسيناريوهات مفتوحة. الاتفاق النووي أنجِز، لكنّه لم يفرش طريق أحد مرشحي قوى الثامن من آذار إلى قصر بعبدا، ولم يحقق مطالب أيّ فريقٍ داخلي للحلحلة. وحتى إذا كان المطلوب منه إرخاء مناخ توافقي واستقرارٍ في الداخل، فإنّ الترجمة تبقى بعيدة المنال، لأنّ الملف اللبناني ليس أولوية، في ظلّ الفوضى التي تعمّ المنطقة من أقصاها إلى أقصاها.
ربما على اللبنانيين اليوم الاتعاظ من التجربة الإيرانية والبناء عليها، بدل الاستقواء بها أو الخشية منها، لأنّ توافر الوحدة الوطنية والإرادة الجامعة يبقى الأساس لتخطّي كلّ العقبات والصعوبات، مهما كان حجمها ونوعها..