منذ ان سمعت بالجريمة التي ارتكبها "منتحل صفة الانسان" طارق يتيم بحق المواطن جورج الريف في الاشرفية، انقلبت المفاهيم في رأسي وبات مشهد "فيلم الرعب" الذي شاهدته يلازم مخيلتي كلما ركبتُ سيارتي لانتقل فيها من مكان الى آخر، وتطاردني الاسئلة على مختلف انواعها علّها تلحق بي لتعرف جوابي ولكن دون نتيجة.
صفات كثيرة اطلقت على الجريمة ووصفها بالتفاصيل والتطرق اليها من مختلف النواحي، ولكن، الحق يقال ان طارق قتل 4 ملايين لبناني يعيشون في لبنان من خلال قتله جورج الريف. كيف؟ ما الذي يمنع ان يكون كل واحد منا بدل جورج الذي لم يختر بنفسه ان تتقاطع طريقه مع طريق القاتل؟ كيف كنا سنتصرف لو كنا بدل جورج والى جانبنا الزوجة التي قد تظلم نفسها عن غير وجه حق وتعتبر انها سبب مقتل زوجها؟ ماذا لو كان اطفالنا معنا في السيارة؟ قد نكون ظلمنا البعض اذا قلنا ان 4 ملايين لبناني قتلوا، لان اصحاب الاموال و"الشبيحة" والمسؤولين يتمتعون بمن يحميهم في مثل هذه الاحوال، ولا يتعرضون اصلاً لمثل هذه المواقف لان من يحاول الاقتراب منهم ولو عن طريق الخطأ يكون مصيره... الموت.
اعتدنا في لبنان، منذ ايام الميليشيات، ان نبتعد عن السيارات الفاخرة، وباتت ارقام تسجيل السيارات المميزة، والزجاج الداكن، وكثرة "الانتينات"، مدموجة بالطراز الحديث للسيارة، من اهم علامات "التشبيح"، فيعمد المواطن العادي الذي لا قيمة له بالنسبة الى هؤلاء، الى الابتعاد عن هذه السيارات قدر الامكان انطلاقاً من مبدأ "بعود عن الشر وغنّيلو".
ولكن طارق اسقط العديد من المفاهيم والمبادئ والتقاليد بدقائق قليلة:
-اسقط طارق اولاً مفهوم ان تواجد فتاة من شأنه تخفيف غريزة القتل، وقد يكتفي الشاب بـ"عرض العضلات" قبل الذهاب. ولكن تواجد ل.ح صاحبة السيارة التي كان يقودها طارق، كان على ما يبدو عاملاً محفزاً لهذه الجريمة وعلى القضاء الا يرحمها ايضاً كشريكة في الجريمة لانها لم تحاول (وفق ما يظهر في الفيديو) ان تطلق ولو صوتا للتخفيف من "وحشيّة" زميلها الذي يجب ان تفتخر به وبرفقتها له...
- اسقط طارق مقولة "في وضح النهار" التي من المفترض ان تشكل رادعاً يمنع الجريمة، فحتى في الانجيل يأتي "السارق في الليل"، وغالباً ما يكون الليل مرتع المجرمين والفاسدين واصحاب اعمال الشر، لتبقى هويتهم مجهولة. ولكن طارق ابى الا ان يتفاخر بما قام به، فركوب حصان الاجرام في منطقته لم ينزل منه الا بهدف قتل ضحيته، ولم يكن هدفه الاذية بل القتل ولا شيء سوى القتل.
اما قضية الهروب نحو مكان عام مليء بالناس، فلم يعد نافعاً لان احداً لم ولن يتدخل، ليصبح الموت في مكان عام موازياً للموت في مكان ناء، مع فارق بسيط وهو فقدان الثقة بالبشر. (هنا، وكي اكون صادقاً مع نفسي، ربما كان احد اصدقائي على صواب حين قال لي ان احداً لم يجرؤ على التدخل في هذه الجريمة ولن يجرؤ، لان الدفاع عن الضحية سيؤدي بالشخص الى اعتقاله من قبل القوى الامنية، ونقل الضحية فيما لو توفي، سيؤدي الى زجّ من نقله بالسجن، ناهيك عن انّ المجرم صنع لنفسه مقداراً كافياً من الصيت السيّء في محيطه ليمنع كل من يعرفه من التدخل).
- كونه من ابناء المنطقة ويعرفها جيداً، لم يرتدع طارق من وجود كاميرات، كما انه لم يرتدع ايضاً من تصوير البعض لما يقوم به، ربما لتمتعه بـ"حصانة ما" نجحت في انقاذه سابقاً في حالات اعتداء وقتل وغيرها... وهو مقتنع بأنها ستنقذه اليوم، وللاسف، ربما يكون على حق.
- من المؤكد ان حالة طارق لم تكن "فورة دم" لان هذه الفورة لا تسمح بالتخطيط للملاحقة ومكان "نصب الكمين"، وحتى عندما تنتهي من المفترض ان يدرك الشخص ما ارتكبه ويتصرف على هذا الاساس، وكل هذه الحالات لا تنطبق على طارق.
- لا يمكن يأي حال من الاحوال تحويل الحالة الجرمية الى سياسية او طائفية او مذهبية او شخصية، فهذا الامر يقتل جورج الريف مرتين. فالمعطيات موجودة وطارق يتيم ابن المنطقة ويعرفه الجميع وهو الذي خطط ان يوقف السيارة هناك ويرتكب جريمته. ان اي محاولة لاخذ الامور خارج هذه المعطيات، هو محاولة لتسخيف الجريمة وافقادها هول فظاعتها، وهو امر غير مقبول بتاتاً.
كل هذه الامور حصلت على مرأى من عين الدولة الساهرة. فالافراج عن طارق مراراً وتكراراً، سمح له بتكديس اعداد ضحاياه، وجعله اقوى من الدولة، وتركت المواطنين دون حماية لان هيبتها فقدت.
في ايام الميليشيات، وفي عز "الزعرنات" كنا نتفادى من ينتمي اليها وكنا بمأمن من تصرفاتهم وافعالهم، اما اليوم فكل من نلتقي به قد يكون مشروع مجرم يريد ان يسلبك حياتك او يخطف اولادك او يعتدي على زوجتك.
في ايام الميليشيات، لم يفكر الكثيرون في اقتناء سلاح، اما اليوم...
رحم الله جورج الريف، واهدى الدولة والمسؤولين الطريق الى احقاق العدالة، وجنبنا التجارب التي تقحمنا فيها الحياة في كل دقيقة.