قيل الكثير عن الفائز والخاسر في إتفاق إيران مع الدول الخمس زائد واحد، وكُتِب الكثير عن إنتصار إيراني، وكذلك عن تسويات مُرتقبة على مستوى كامل المنطقة، إلى ما هناك من نظريّات ومن تفسيرات مُتضاربة. فإلى أي مدى هذه التوقّعات في مكانها وهذه التحاليل دقيقة وموضوعية؟
من المُمكن الدفاع عن كل هذه التحليلات وإنتقادها في الوقت نفسه، حيث أنّ نظريّة "نصف الكأس الفارغ أو الملآن" قابلة للتطبيق على الكثير منها، لكن بعض هذه التحاليل تحمل التناقض في جوهرها وهي خارج المَنطق. وأبرزها نظريّة إنتصار إيران وقرب التسويات في المنطقة على مستوى مختلف الملفّات العالقة في الوقت عينه. فإذا كانت إيران هي المُنتصرة على صعيد المكاسب التي حقّقتها في إتفاقها مع الدول الغربيّة ومن ضمنها الولايات المتحدة الأميركيّة، فإنّ هذا الواقع–إذا كان صحيحاً، لا يُؤشّر لمرحلة تسويات وتفاهمات وحلول، بل إلى مزيد من المواجهات والصراعات والأوضاع المُتفجّرة في كامل المنطقة الواقعة ضمن النفوذ الإقليمي لإيران. صحيح أنّه في كثير من الوقائع التاريخيّة يفرض الفائز والمُنتصر مشيئته على الآخرين أي على الخاسرين أو المهزومين، ويُطلق عليها تسمية "تسوية"، لكنّ الأصحّ أن هذه الحال لا تنطبق على الوضع الحالي في المنطقة والدُول العربيّة. وهذه هي بعض الأدلّة على ذلك:
أوّلاً: إنّ الساحات الإقليميّة التي تتواجه فيها إيران بشكل غير مُباشر مع خصومها في المنطقة غير مُرتبطة بالنفوذ الأميركي دون سواه، لتُقرّر واشنطن إقفالها بإشارة منها، بل بنفوذ وتأثيرات دول إقليميّة عدّة، في طليعتها تركيا والمملكة العربيّة السعوديّة، وكذلك بنفوذ وتأثيرات مُنظّمات مُسلّحة، بعضها إرهابي، تتغذّى عبر شبكة من المصالح والإمتدادات السياسيّة والأمنية والإقتصادية والدينيّة، إلخ. وبالتالي، إذا إفترضنا أنّ الولايات المتحدة الأميركية ترغب بإقفال أيّ ملفّ بتسوية مع إيران، فإنّ قُدرتها على التأثير ليست حاسمة، بل تتداخل وتتشابك مع قُدرات تأثير جهات أخرى عدّة، وتتناقض معها في كثير من الأحيان، علماً أنّ واشنطن ليست أصلاً في وارد إقفال أيّ ملفّ تتمتّع فيه بثقل ونفوذ بشكل مجاني ومن دون أيّ مقابل. فالإدارة الأميركيّة حقّقت مُبتغاها من الإتفاق مع إيران، لجهة الإيحاء بإتمام صفقة مُتوازنة تعكس نجاح دبلوماسية فريق عمل الرئيس باراك أوباما، ولجهة فتح صفحة جديدة مع إيران تسمح لواشنطن بالتنسيق معها لمواجهة "أعداء" مُشتركين، على غرار تنظيم "داعش" الإرهابي على سبيل المثال. وهي بالتالي غير مُستعجلة لتقديم تنازلات مجّانية لإيران في أيّ ملفّات إقليميّة أخرى، من دون أن تحظى بأيّ مكسب مهم في المقابل، خاصة وأنّ تقارب واشنطن مع طهران يتم على حساب تراجع علاقاتها مع حلفائها التقليديّين، من تل أبيب وصولاً إلى مختلف العواصم الخليجيّة.
ثانياً: إنّ المعارك الدائرة في أكثر من دولة عربيّة، خاصة في سوريا واليمن، لم تبلغ مرحلة الحسم الميداني، بل لا تزال في مراحل المُواجهة الشرسة المفتوحة، وبالتالي لا قُدرة لإيران أو سواها بعد على فرض تسويات فيها إنطلاقاً من واقع "المُنتصر والمهزوم". وليس سرّاً أنّ المكاسب الإقصادية والمالية التي حصدتها إيران مع الدول الغربيّة، ستُعزّز قدرتها المالية على تمويل الجهات والحركات المؤيّدة لها والمُنفّذة لسياستها في المنطقة، والتمويل هو أوّل بند لتغذية الحروب المُشتعلة وليس لإطفائها. وكل الإشارات الواردة من إيران في الأيّام الأخيرة، وآخرها خطاب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي، لجهة إستمرار إيران بمواجهة "سياسة الغطرسة الأميركيّة"، تؤكّد إستمرارها بالسياسة التي تعتمدها في المنطقة من دون تغيير، وليس من باب التهويل الإعلامي فقط حفاظاً على ماء الوجه.
ثالثاً: إنّ ردّات فعل دول المنطقة والتي تراوحت بين الحذر وخيبة الأمل من التقارب الأميركي – الإيراني المُستجدّ، ستدفع كل الجهات المُموّلة للحروب والتوتّرات في الدول العربيّة، وللجماعات والقوى التي تُقاتل الجهات المحسوبة على إيران، إلى رفع مستوى تمويلهم للقوى الحليفة لهم، في مُحاولة لتعويض ميلان الدفّة في غير صالحها بفعل الإتفاق بشأن الملفّ النووي. وبغض النظر إذا كانت واشنطن تُواصل سياسة تفتيت المنطقة إلى دويلات صغيرة متناحرة، أو ترغب فعلاً في التوصّل إلى تسويات تُنهي هذه النزاعات، الأكيد أنّ خصوم طهران الكُثر في المنطقة سيتكتّلون ضد إيران، بمعزل عن الموقف الأميركي، تحت راية "عدوّ عدوّي... صديقي"!
في الخلاصة، ربما يُمكن أن تتمّ مناقشة نظريّة إحتمال إنتصار إيران في المُستقبل بشكل يسمح لها بفرض مشيئتها بالقوة على مختلف القوى في المنطقة، لكنّ الحديث عن إنتصار إيراني وفي الوقت عينه عن حلول زمن التسويات هو تناقض ما بعده تناقض. فالتسويات، كما هي الأمثلة في كل كتب التاريخ، تتطلّب خياراً من خيارين: إمّا إنتصار أحد الأطراف على خصومه وقيامه بفرض مشيئته على الجميع بالقوة، وهذا لم يحصل في حالة إيران مع خصومها اليوم، وإمّا أن تكون القوى المُتواجهة مُتوازنة وتقدّم تنازلات مُتبادلة للوصول إلى تسوية وسطيّة، وعندها لا يعود الحديث عن مُنتصر ومهزوم وارداً. ومن هذا المُنطلق لا يمكن أن تكون إيران قد إنتصرت وأن تكون المنطقة مُقبلة في الوقت عينه على زمن التسويات. فإمّا إيران لم تنتصر وستقوم بتبادل التنازلات مع خصومها للوصول إلى تسويات تُرضي الجميع في مختلف الملفّات، وإمّا إيران إنتصرت لكنّها لم تبلغ بعد مرحلة فرض شروطها ومشيئتها – كما تدلّ كل الوقائع الميدانية، ما سيستتبع الإستشراس في مواجهتها من قبل خصومها، أيّ إندلاع المزيد من المعارك والحروب بحيث يُصبح الحديث عن قرب زمن التسويات عبارة عن أوهام وتمنّيات وحتى من باب الفُكاهة لا أكثر!