لا نعتقد أنّنا كنّا نظنّ للسعودية غير ما وصلت إليه، وهي نتيجة حتمية للمقدّمات التي قدّمتها في قلب مواجهة كانت فيها تمارس أدواراً عمرها عشرات السنين، وهي الأدوار التي لم تكن إلا في الاتجاه الخاطئ لطبيعة مجريات الأحداث، ولطبيعة حقوق شعوب المنطقة، طالما أنّها، أيّ السعودية، كانت قد ربطت وجودها ومصالحها بخريطة علاقات قائمة على اتجاه واحد، وهو الاتجاه الذي يتجاوز منظومة المنطقة باتجاه منظومة استعماريّة، تمثلت بعلاقاتها التاريخية مع بريطانيا في مرحلة أولى ثم مع الولايات المتحدة في المرحلة التالية.
إنّ هذه الخريطة من العلاقات كانت في نظر السعودية متينة إلى الدرجة التي جعلتها تضع كلّ بيضها في سلّة الوجود الأميركي، وتمارس أدوارها على أكتاف هذا الوجود في شكل لا يمكن القيام باستدارة طبيعية لتجاوز هذه العلاقات، في ما لو أنّ هذا الوجود أو الحضور الأميركي على مستوى المنطقة مسّه شيء من الوهن أو التراجع. لقد أقامت السعودية علاقاتها على هذا الأساس، بعيداً عن احتمالات أخرى لهزيمة أو تراجع في قوة وكفاءة الولايات المتحدة، أو بعيداً عن احتمالات تجعل من قوى إقليمية تتقدّم كي تحجز لها موطئ قدم فاعل على مستوى المنطقة، يجعل الولايات المتحدة ذاتها تعيد إنتاج علاقاتها على هذا الأساس من الصعود أو الحضور الجديد لأيّ قوة يمكنها أن تفعل ذلك، فالإدارة الأميركية لم يفتها ذلك طيلة مرحلة وجودها القوي على مستوى المنطقة. فهي التي حاولت في لحظة تاريخية «استمالة» الرئيس جمال عبد الناصر، كما حاولت في لحظة أخرى إيجاد «صيغة تفاهم» لحضور تطلعات الرئيس حافظ الأسد على مستوى المنطقة والإقليم، كما حاولت أن توجد جملة معادلات طارئة على سياق حضورها ووجودها التاريخي.
لقد كانت السعودية تحاول الذهاب إلى آخر المطاف، في دور الأداة الطيّعة، بالشكل الذي يغري الولايات المتحدة كثيراً في استعمالها، وصولاً إلى اعتبارها الأقدر على تلبية ما كانت تريده الإدارات الأميركية المتعاقبة. وهو ما كان واضحاً خلال مراحل الاستعمال المباشرة في عدوان هذه الإدارات على دول المنطقة.
لقد تجلّى ذلك في العدوان الأميركي على جمال عبد الناصر، كما تجلى في العدوان على الثورة الإسلامية في إيران، من خلال دعم صدام حسين في حربه ضدّها، ثم تجاوزت السعودية هذا الدعم حين طلب منها أن تكون في وجه صدام حسين، فهي من شجّعت وموّلت باتجاه إسقاطه واحتلال العراق أميركيّاً، الأمر الذي أغراها أكثر في تكريس هذا الدور وبالتالي في استدامة هذا الاستعمال!
لم تتردّد السعودية أن تكون حامل «الربيع العربي»، تحريضاً ودعماً ماديّاً ومعنويّاً، على رغم أنّها كانت تمرّ في لحظات من التخبّط وعدم القدرة على تقديم خطاب واحد متجانس لجهة هذا الحراك الذي قام على أكتاف ما سُميّ «ربيعاً عربيّاً»، لكنّها أخيراً وجدت نفسها في قلبه تدفع باتجاه ما ترغب به الولايات المتحدة، وباتجاه خدمة مصالحها، خصوصاً عندما وصل الأمر إلى سورية. فقد كانت اللحظة الهامة بالنسبة لها، نعني السعودية، حيث ظنّت بأنها تقوم بتصفية حسابات تاريخية مع مستويين من «التهديدات» التي تتعلق بوجودها الحقيقي:
أولها سورية، التي كانت ملاذ عبد الناصر، أو كما تراها هي، ثم كانت المركز الحيوي العربي الرئيسي لقيام الدولة القومية التي يمكن أن تهدّد مفهوم المملكة التاريخي، باعتبار أنّه لم يغب عنها أنّ حراك الشرق العربي الفاعل بالمعنى الحقيقي لصيرورة قيام الدولة كان يمرّ في سورية دائماً.
الثاني إيران، والتي ترى فيها تهديداً وجوديّاً لمفهوم المملكة الديني، خصوصاً عندما تعتبر نفسها وريثاً لدولة تقوم على مفهوم تاريخي ديني، يمنحها شرعيّة معينة، حيث رأت في إيران الدولة والثورة الطاردة لهذا المعنى، باعتبار أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية قامت على أساس ثورة رئيسيتها الإسلام.
لهذا المعنى ذهبت السعودية بعيداً في الرهان على إسقاط سورية، ولم نرها منساقة مع «الربيع العربي» مثلما انساقت معه في سورية، فقد أظهرت حقدّاً هائلاً على معنى الوجود والحضور السوري، وتورّطت كثيراً في دماء السوريين، ظنّاً منها أنّ لحظة تاريخية اقتربت للتخلص من جذر الشرق العربي بالمعنى السياسي المتطور، خصوصاً أنّها تظنّ بأنّ العراق أو بلاد الرافدين صار في مكان لا يؤهله بعدها من التأثير السلبي عليها كما سورية!
السعودية الآن، وبعد الاستدارة الأميركية، على إيقاع «اتفاق نووي» مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وجدت نفسها أمام مهلكة تاريخية، فهي لم تحسب هذا الحساب أبداً، باعتبار أنّ الإدارة الأميركية أضحت في مكان آخر، وفي موقع آخر. هذا المكان وهذا الموقع يجعلان كلّ الحسابات السعودية في مهبّ الريح، ويجعلان من إيران دولة قادرة على أن «تتقاسم» النفوذ على المنطقة، إنْ لم نقل إنّ معادلة نفوذ قد قامت بفضل ناتج الاشتباك الذي تمثّل في ما حمّل على منصة «الاتفاق النووي».
السعودية ليس بمقدورها إلا الانصياع للحاصل، وليس بمقدورها إلا أن تعيد تموضعها بخسارة تاريخية قد تودي بها، إذا ما أرادت دول فاعلة على مستوى المنطقة أن تفعل ذلك. إذ إنّنا نعتقد أنّ السعودية غير قادرة بعد على حماية وجودها وبقائها، في ظلّ انكشافها الكلّي أمام ما حصل خلال السنوات الأخيرة من عمر المنطقة. فقد بدا واضحاً أنّ السعودية هي دولة الإرهاب من خلال مادته الأولى، ونعني بها الإنسان والأيديولوجيا، حيث بدا واضحاً أنّ هناك إنساناً مشبعاً بهذا المعنى، وأنّ هناك أيديولوجيا ترعاها السعودية بمعنى آخر.
إنّ حماية السعودية من مهلكتها التاريخية تتطلب عقلاً واسعاً للتعامل مع الراهن والصاعد الجديد، وتتطلب تنازلات كبيرة. ولا نعتقد أنّ ما فعلته أخيراً لجهة إعادة إنتاج العلاقة مع قيادة «حماس»، أو التواصل مع «زعامات» لبنانية معروفة في ولائها لها، قادر على أن يعيد إنتاج نفوذ لها، خصوصاً أنّ عصا الحاجة الأميركية والأوروبية لم ترفع بعد في وجه من يحاول أن يسيء إلى مصالحهما الصاعدة على أكتاف «الاتفاق النووي».
ولا نعتقد أنّ طلب وليّ العهد السعوديّ، باسم السعودية وباسم «أردوغان»، من الرئيس بوتين التوسّط عند الرئيس بشار الأسد، من أجل قيام تحالف أمني إقليمي، يجمع سورية والسعودية والأردن وتركيا، كاف أيضاً على تجاوز تلك المهلكة، كون أنّ ورطة السعودية أكبر من ذلك بكثير!