"الحرب مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم بعضًا لحساب آخرين يعرفون بعضهم بعضًا، ولا يقتلون بعضهم بعضًا" (بول فاليري).
تلك هي الحروب منذ فجر التاريخ إلى الآن. تسيل دماء تغطّي وجه الأرض، تسفك من أجساد بشر لا يعرفون بعضهم بعضًا، بل استهلكوا كمستوعبات بين دول تعرف بعضها بعضًا تتقاتل فيما بينها من زاوية المعرفة، وفي أوان التسويات تتصالح تلك الدول مع بعضها وتوقّع الاتفاقات فيما بينها، بعد نزف بشريّ واقتصاديّ حادّ، كما في سوريا والعراق واليمن.
على هذا لا يستطيع أحد أن يعتبر بأنّ الاتفاق بين إيران والدول (5+1)، طوى صفحة الحروب في الإقليم الملتهب. فالاحتراب الدائر في الإقليم الملتهب، بمنطق إيديولوجيّ وتكفيريّ، مغلّف بوشاح سعوديّ-إسرائيليّ، ينطلق من هدف واحد وهمّ واحد محصور بعنوان واحد، إسقاط الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ بكلّ الرؤى والمعايير في ساحات الصراع والاشتباك. وهو يملك خصوصيّة متماهية مع إطار المعركة وشكلها ومضمونها، التي سيخوضها الرئيس الأميركي باراك أوباما في الكونغرس الأميركيّ.
ولا بدّ من ملاحظة تبديها بعض المصادر بأنّ هرولة بعض الدول الأوروبيّة نحو إيران لا تعني أن الاتفاق قد تجذّر بل هي مجرّد مقدّمات إيجابيّة، فالمسألة ليست بين الأوروبيين والإيرانيين بالمطلق بل بين الأميركيين فيما بينهم بالدرجة الأولى ومن ثمّ بين الأميركيين والإيرانيين، وقد بدأت معركة رفع السقوف تعلو بين الطرفين من خلال كلام المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي ورد وزير الخارجية الأميركيّ جون كيري عليه معتبرًا بأنّ كلمته مزعجة للأميركيين.
وفي السياق عينه، برزت مطالب أميركيّة سعوديّة واضحة تطالب بإيجاد حلول على الساحتين السوريّة واليمنيّة. في الساحة الأولى الجميع متفق على الحل السياسيّ ولكنهم مختلفون على نوعيّته. ففي القراءة الأميركيّة التي انكشفت على لسان كيري، أنّه لا يمكن تصوّر الحل بوجود الرئيس السوري بشار الأسد على رأس السلطة، ويأتي ذلك من باب الاشتباك المتجدّد بين الإدارة الأميركيّة والسيد خامنئي، على العناوين التي أظهرها المرشد في خطبة العيد بالتأكيد على الثوابت الإيرانيّة في سوريا والعراق واليمن والبحرين ولبنان وفلسطين، والثابت الجوهريّ في سوريا والذي يدعمه الروس كما بات معلومًا بأنّ أي حلّ سياسيّ لن يتكوّن من هذا العدم الميدانيّ المستعر ويبصر النور بلا وجود بشار الأسد على راس السلطة وفي قلب الحلّ. لن تتخلّى إيران كما قال رئيسها حسن روحاني عن تعهداتها، لكنّها بدورها لن تفرّط بمواقع أصدقائها مما يدل على أنّ قواعد الاشتباك على ترسيخ الاتفاق بموازين القوى على الأرض ستتنتقل حتمًا إلى سوريا واليمن، والأوراق التكفيريّة لن يتمّ التفريط بها على الرغم من اتفاق الجميع على تطهير الأرض من شروشها، في هذا "الكباش" الممدود من ساحة سوريا إلى اليمن مرورًا بالعراق ولبنان جزء منه.
أمام هذا المشهد، تدعو بعض المصادر المراقبة إلى عدم التسرّع بالحكم على المراحل المقبلة من خلال مظاهرها الاحتفاليّة بل من خلال مفاعيلها الميدانيّة ومعاييرها السياسيّة وانعكاساتها الواقعيّة. ذلك أن خطوط الاتفاق العريضة راسخة في الأصل وهي ليست بحاجة لأي تأويل أو تشريح أو توصيف سواء في الميدانين السوريّ أو العراقيّ. وعلى الرغم من دعوة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين من باب الاتفاق المبرم إلى حلف يجمع سوريا والسعوديّة والأردن وتركيّا بوجه الإرهاب التكفيريّ وعلى الرغم من إشاعة بعض الأجواء المتفائلة بلقاء بين مسؤول سوريّ وآخر سعوديّ غير مؤكّد بعد، فإنّ هذا الحلف لم تتوفّر ظروف نشوئه بعد، لا في الساحة السوريّة ولا في الساحة العراقيّة، على الرغم من أنّ بعض التعاون غير المعلن وبحسب بعض المصادر قد بدأت حروفه تكتب على أوراق الواقع بكشف تنظيمات إرهابيّة تنتمي إلى تنظيم "داعش"، وعلى افتراض أنّ هذا الأمر قد بدأ يظهر تباعًا إلاّ أنّ الاتفاق على الخطوط العريضة آفاقه غير واردة بعد وبخاصّة في ما يعود لمعنى الحلّ السياسيّ ومحتواه على الأرض السوريّة.
أولى علامات ذلك ما بدأ يظهر من تصريحات على الساحة اللبنانيّة من تجديد للعناوين المتكررة بوجه "حزب الله" وإيران، ومساهمتهما في عرقلة الانتخابات الرئاسة اللبنانيّة، واستتبع ذلك بهجوم مركّز على النظام في سوريا. ويعتبر بعض المراقبين بأن الساحة اللبنانية ستكون مدى لصراع يواجه به الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ من السعوديّة بالعناوين اللبنانيّة غير الخاضعة بعدُ لتسويةٍ جوهريّةٍ تعيدها إلى الوجود، بل لاستقرارٍ هشّ ومعطوب قابلٍ للاهتزاز والانفجار. وتنصح بعض الدوائر السياسيّة بعض الأقلام بعدم التسرّع بإطلاق الأحكام وكأنّ مفاعيل الاتفاق بدأت تترسّخ بالعنوان الرئيسيّ وهو انتخاب رئيس للجمهوريّة. فهذا الأمر مؤجّلٌ من قبل اللاعبين والمتصارعين في الميادين السوريّة والعراقيّة واليمنيّة. وتُظهِر بعض الاستطلاعات بأنّ مفهوم الرئيس القويّ سيترسّخ من أرض الميدان، فهو وحده، أي الميدان، سيفرض شروط التفاوض وقواعد الخيارات، فتتجمع من أرض الصراع في الداخل اللبنانيّ لتقول قولتها، وقد بدأ القول بالظهور تدريجيًّا بسبب الاعتراف بدورها كدولة إقليمية كبرى والذي اكتسبته إيران في معركة التفاوض والتوقيع كمقدّمة لمعركة إقرار الاتفاق وتثميره وتجذيره على الأرض بعناوين الحلّ في الساحات الملتهبة والإقليم المتوتّر بعد جلاء غبار المعارك بين دول تعرف بعضها ومصالحها من فضائها.