في إطلالة هامة للرئيس بشار الأسد تداخلت فيها عناوين عدة ومتنوعة، منها ما هو داخلي وآخر إقليمي وثالث دولي، كما أنّ هناك رسائل كانت موجّهة بالمستويات الثلاثة أيضاً، غير أنّ الرئيسيّ فيها أنّ شيئاً مما طرحه الرئيس الأسد لم يتراجع عنه منذ اللحظات الأولى للعدوان على سورية. وهو ما زال يؤكد على جملة أساسيات حاكمة لكلّ كلماته وتصريحاته وإطلالاته، بأنّ هناك عدواناً يشنّ على الدولة السورية، وأنّ هناك أدوات استعملت في العدوان، على رأس هذه الأدوات مجموعات سُلّحت من أجل أن تواجه الدولة، تحت مظلّة شرعية ما أطلق عليه «المجتمع الدولي»!
الأسطوري في المشهد أنّ جزءاً واسعاً من الجغرافيا السورية تمّت السيطرة عليه من قبل هذه المجموعات التي امتهنت الإرهاب، أو العنف المسلح، للقضاء على الدولة، والرئيس الأسد لم يتزحزح قيد أنملة عمّا أكده منذ اللحظة الأولى للعدوان، والمعروف جيّداً في تاريخ العدوان والحروب أنّه من الطبيعي أن يبدأ سيناريو الانزياحات عن بعض المقدّمات التي تعلنها قيادات الطرفين المتواجهين، وهو أمرٌ طبيعي جدّاً، حيث يعبّر بدقة عن طبيعة ناتج الاشتباك في مثل هذه الحالات…
لقد تمسّك الرئيس الأسد أنّ هناك وطناً يُعتدى عليه، في حين أنّ هناك مطالب أطلق عليها شخصيّاً «المطالب المحقّة» لبعض المواطنين الذين نادوا بتغيير بعض التشريعات ورفع حالة الطوارئ وتغيير بعض مواد الدستور، كما كانت هناك «مطالب» أخرى لها صلة بالعلاقة القائمة بين مؤسسة الدولة والمجتمع. والغريب أنّ أقرب المقرّبين من الرئيس بشار الأسد كانوا يظنون أنّه كان يقوم بفعل مناورة للالتفاف على هذه العناوين، من أجل تمرير زمن معيّن يضمن فيه صمود وبقاء السلطة، بالتالي بقاؤه فيها، الأمر الذي حتّم عليه الاعتراف ببعض تلك الملاحظات على مؤسسة الدولة!
لم يمرّ زمن طويل حتى استجابت الدولة السورية لجملة هذه «المطالب»، على رغم أنّ المشهد لم يكن يخدم الدولة ومؤسساتها كي تقوم بتأدية ما قامت بأدائه، وكلّ ذلك لم يدفع بعض «القوى السياسية» المحسوبة على أطراف إقليمية، والمحمولة على هذا العدوان، للاستفادة من هذه اللحظة وملحقاتها، خصوصاً في ما جاء عليه الإصلاح السياسي، فقد بدت الدولة في واد وهذه «الأطراف» في واد آخر!
لقد قام الرئيس الأسد بتنفيذ كلّ ما وعد به، ولم يلتفت إلى تجاوب الذين نادوا بهذه الإصلاحات، أو هذه «المطالب»، ولعله كان الأكثر إدراكاً على أنّ ما جاء عليه البعض في سورية على أنّه «مطالب» إنما هو حاجة مجتمعية سياسية حقيقية، بالتالي لا بدّ من التعاطي معها إيجاباً، غير أنّه كلما كان يحصل مثل هذا التقدّم والاستجابة لبعض هذه «المطالب» لم يكن العدوان وأدواته يعطي بالاً لذلك، ولم يكن ليستفيد منه، خصوصاً أنّ هناك فرصة سياسية هامة جداً، طالما تحدثنا عنها، وحوّلها، وهو أنّ الاستجابة لهذه المطالب كان يمكن لبعض «الأطراف السياسية» أن تعتبرها في السياسة منجزاً من منجزاتها، باعتبار أنّ الدولة، أو الفريق الذي يقود الدولة، لم يستجب لها إلا بعض هذا «الحراك السياسي».
في إطلالته الأخيرة يؤكد الرئيس الأسد على ذات الرئيسيات التي طالما فصل بينها وبين متطلبات الداخل السوري، فقد بقي يصرّ على أنّ هناك «حراكاً سياسياً» يجب أن يعبّر عنه في ظلّ مؤسسة الدولة وهو حالة صحية وطبيعية جداً، وبين عدوان يشنّ على الوطن السوري، ولم يسمح لأيّ طرف كان بالاستفادة منه أو الاستقواء به على مؤسسات الدولة السورية، وبقي واضح الرؤية وصريحاً فيها لجهة أنّه لا بدّ من الفصل بين هذين العنوانين الأساسيين، فالعمل السياسي والحوار السياسي والعملية السياسية في ما بين السوريين شيء، والعدوان عليهم شيء آخر، بالتالي لم يقبل أن يتمّ الخلط بينهما أو التداخل في ما بينهما، خصوصاً أنّ هناك أرضاً غنية وخصبة جدّاً لمثل هذا التداخل ومغريات كبيرة وكثيرة لكي يستفيد منها الفريق الوطني الذي يقود الدولة، وعلى رأسه الرئيس بشار الأسد…
توقف الرئيس الأسد عند العدوان على سورية، وأنّه للنيل من الدور الذي لعبته الدولة السورية إلى جانب حلفاء لها، وهو ما قاله منذ اليوم الأول، وتوقف عند الإرهاب باعتباره أداة العدوان الرئيسية على الوطن السوري، وتأكيده على مواجهته، وهو ما كان قد أكّده منذ الأسابيع الأولى للعدوان. وأوضح أنّ الأداة الرئيسية لهذا العدوان، ونعني بها الإرهاب، لن يحرق سورية وحدها، وإنما سوف يمتدّ كي يحرق أطرافاً واسعة على مستوى الإقليم والعالم، إضافة إلى التأكيد على أنّ الدولة سوف تواجه هذا العدوان بطاقة أبنائها وكافة شرائح مجتمعها، وهو ما تحدّث عنه طويلاً، وشرحه لجهة العقلية والنظريات التي تخاض المعركة العسكرية على أساسها.
كنّا ندرك تماماً، وربما هذا ما اختلفنا به وحوله مع كثيرين أنّ المعركة الميدانية لم تكن تُدار ارتجالاً، وإنما كانت تدار وفق نظريات هامة جداً، لعلّ الرئيس الأسد في إطلالته هذه لم يتحدّث إلا عن جزء بسيط من هذه النظريات، لها علاقة فقط بطبيعة الدولة وأولوياتها، والحدّ قدر الإمكان من سقوط ضحايا مدنيين، حيث أكّد لنا من جديد أنّه الأقدر ميدانياَ، وأنّ الدولة لم تؤخذ على حين غرّة، وأنّ القوات المسلحة صامدة وهي ذراع الدولة المتعافية، على رغم ما أعدّ لها، وكلّ ما وجّه لها من ضربات، فالقوات المسلحة تدرك جيداً متى تتراجع، وأين تتراجع، ومن أجل ماذا تتراجع، كما أنّها تدرك أكثر متى تتقدّم، وأين تتقدّم، ومن أجل ماذا تتقدّم، إذ إنّ هناك أولويات واضحة تقاتل من أجلها.
لم يبدُ هناك ضياع في المشهد العام للمواجهة، على رغم بعض الخسائر والانسحابات حتى الهزائم التي وقعت في بعض المواقع والقرى والمدن، ونعتقد أنّ هناك شيئاً مسكوتاً عنه لم يقله الرئيس الأسد حتى اللحظة، وهو أنّ هناك نظريات تمّ الاشتغال عليها ميدانياً تؤدي هدفاً اجتماعياً وتاريخياً، لكننا نعتقد أنّ اللحظة لم تحن بعد للحديث عنها وحولها.
إذن… حقيقة لم يتراجع الرئيس الأسد عن مقدّماته الأولى، وعن خطابه الأول، لجهة عناوين هامة، لكنّه تمسّك بها أكثر وقاتل من أجلها، في حين أنّ الخطاب الآخر، خطاب أطراف العدوان هو الذي تغيّر، وهو الذي كان ينزاح من وقت إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى، وهو الذي بدأ بـ«إسقاط النظام»، وانتهى بـ«إسقاط الإرهاب»، مروراً بكلّ الأهداف الأخرى التي سرعان ما كانت تذوب وتتلاشى أمام ثبات وصمود وتضحيات السوريين. وهذا تعبير حقيقي عن هذا الصمود وتلك التضحيات التي أدّت نتائجها باتجاه الانتصار السوري، من خلال منع إسقاط الدولة أو تفتيتها أو إلحاقها بعجلة مصالح وحسابات الدولة الكبرى.
نعتقد أنّها لحظة هامة من لحظات صيرورة النصر، أن يقف فيها الرئيس الأسد وهو يتحدّث عن دولة قائمة وحاضرة وموجودة، تدير معاركها مع حلفائها، ومن خلال طاقتها الفذة والكامنة، وبقدرة هائلة وعظيمة على التحكم جيّداً بأذرعها السياسية والعسكرية والاستخباراتية والاقتصادية.