لبنان أمسى في عين العاصفة. ليس أدلّ على استكانته في عينها سوى عقم الأزمة بتراكماتها، والمتشعبّة من إزائيّة أزمتين سياسيّة-أمنيّة وأخرى اجتماعيّة، ولكنّ عنوانها العريض إسقاط الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ قبل تجذيره على أرض الواقع، يستدلّ عليه من تحريك الجبهات بمحور إسرائيليّ-سعوديّ، سواءً على الحدود الشماليّة في سوريا مع تركيّا من خلال دخول جيش الإسلام أرض المعركة، أو في الغارات الإسرائيليّة ضمن منهجيّة موحّدة وتوقيت واحد على القنيطرة في سوريا وقوسايا في لبنان. قبل الاتفاق كان لبنان مرتاحًا إلى استقرار هشّ ومعطوب، جوهره الداخليّ الأساسيّ عدم إسقاط حكومة تمّام سلام بقيام رئيسها بتقديم استقالته. ولكن بعد الاتفاق التهب الاستقرار بتبعثر كبير وتدحرج عميم بعناوين كثيرة وخطيرة، جعلته مثقوبًا ينزف قيحًا مريرًا ودمًا غزيرًا، وكلّ هذا تكوّن ونما بفعل قرار سعوديّ بالتصعيد الكبير على كل المستويات بوجه إيران بحيث عاد واستجمع أوراقه على الأرض اللبنانيّة باتجاه هذا الهدف وتصاعده.
لم تعد الأزمة اللبنانيّة تفصيلاً صغيرًا. بل تفصيل كبير متماه والصراع في الإقليم الملتهب. في الأساس يجدر فهم طبيعة لبنان بواقعه السياسيّ والأمنيّ، وبمنهج تاريخيّ صارم. فهو مستودع ومستوعب للعناوين المفرزة من صراعات الآخرين، فتستلذّ الطبقة السياسيّة التموضع في حروفها الداكنة، والتصرّف بإملاءاتها، والتحرّك بمضمون خيوطها، فتستحيل تلك العناوين ألغامًا معدّة للانفجار بعد استقرار يسير بتوقيت طويل أو قصير. على هذا إنّ طبيعة الصراع الحاليّ تأخذ البلد إلى احتراب غير مباشر بين السعوديّة وإيران، وهو الآن متّجه إلى حرق لبنان بعنوان كبير هو انتخاب رئيس للجمهوريّة وصولاً إلى الأزمات الاجتماعيّة المحرّكة بوجه معركة صلاحيّات الحكومة ورئيسها التي يخوضها التيار الوطنيّ الحرّ برئاسة العماد ميشال عون بوجه تيار المستقبل برئاسة النائب سعد الحريري والنائب فؤاد السنيورة.
تشخيص طبيعة الصراع بتلك العناوين المتراكمة بصلف شديد أساسيّ لمعرفة اتجاه الأزمة على الأرض وتأثيرها على ديمومة لبنان وطنًا وشعبًا ومؤسسّات. في الأساس إنّ الأزمة لا تزال تكوينيّة وكيانيّة، وتشتعل بصورة هائلة مع كلّ مطبّات تاريخيّة، كما حصل على سبيل المثال لا الحصر، مع ترسيخ اتفاق سايكس-بيكو، فولد من رحمه لبنان الكبير، ومع انتهاء الحرب العالميّة الثانية ترسّخت دولة لبنان الكبير بميثاق لم يصمد على الإطلاق مع اشتعال العالم العربيّ بقضيّة فلسطين، ودخول لبنان صراع المحاور على أرضه بحراك طائفيّ تكوينيّ أعادنا به إلى المنطق الكيانيّ، وكان قد رفضه بكيانه الجغرافيّ المسلمون السنّة بصورة إجماليّة في مؤتمر الساحل المنعقد على مرحلتين سنة 1932 و1936. وظللنا على تلك الوتيرة مع الثورة الناصريّة وحلف بغداد، واختلاط القضية الفلسطينيّة بالعناوين اللبنانيّة حتى انفجرت الحرب سنة 1975 ودامت ثلاثين سنة ونيّف. كثيرون ظنّوا أن اتفاق الطاّئف سنة 1990 قد حلّ الحرب، ولكنّ الأسئلة التكوينيّة-الكيانيّة ظلّت مع شعور المسيحيين بمقهوريّتهم ومظلوميّتهم، وبقيت تتراكم الأمور حتى وصلنا إلى أخطر مرحلة وجوديّة تعيشها المنطقة ومصيرها قيد التقرير خلف غمام الصراع وغباره على الأرض.
عدنا إلى عين العاصفة في هذه اللحظات الدقيقة وأمام تلك اللوحة الشديدة القتام والعبثيّة، تستبعد المصادر السياسيّة إيجاد حلول واقعيّة لكلّ الأزمات على الأرض قبل حسم الصراع المتمحور حاليًا ما بين تجذير اتفاق قد يشبه بحدود كبيرة اتفاق سايكس-بيكو، أو محاولة إسقاطه إسرائيليًّا وسعوديًّا ما بين الحدود اللبنانيّة-السوريّة، والحدود السوريّة-الإسرائيليّة، ومن ثمّ على الحدود التركيّة-السوريّة وبرضى تركيّ خفيّ وواضح. وتشير معظم المصادر والأوساط المتابعة بأنّ الأرض اللبنانيّة مأخوذة نحو مزيد من التأزيم الطائفيّ العبثيّ، فتتولّد منه مساحات فتنويّة فوق الأرض اللبنانيّة. وتستكمل تلك الأوساط قراءتها لمنهجيّة التأزيم لتُعرِب بأنّ أزمة الصلاحيّات هي جزء من كلّ، هي صرخة مدوّية أطلقها التيّار الوطنيّ الحرّ بوجه طائفيّة سياسيّة أخرى تشرّشت، وقد لفظها حزب الله من جوفه، بدعمه مطالب الفريق المسيحيّ، بمعايير أوضحها أمينه العام السيّد حسن نصرالله حين قال في خطابه الأخير نحن طرف ولسنا وسيطًا. وقد تشكّلت تلك الطائفيّة باتفاق كتبت نصوصه لترسيخها باعتراف مباشر من صانعه ومروّجه الكبير رئيس الحكومة الأسبق الشهيد رفيق الحريري، حين قال: الطائف وجد للمسلمين، وبتفسير صريح وجد لترسيخ ما سمي اصطلاحًا السنيّة السياسيّة القابضة بدعم سعوديّ مباشر على التفاصيل اللبنانيّة. وهذا عينًا ما يفسّر المخاوف السعوديّة من أن يطيح الاتفاق بين إيران والدول الستّ، اتفاقًا كسب منه سنّة لبنان حكمهم، وكسبت السعوديّة به مطلاًّ من لبنان على المحيط المشرقيّ.
السؤال الذي يتمّ طرحه في بعض الأروقة السياسيّة: هل تملك السعوديّة قدرة توظيف سياستها التعطيليّة لهذا الاتفاق وإسقاطه بعدم المساهمة في الحلول السياسيّة اللبنانيّة انطلاقًا من حسم مسألة رئاسة الجمهوريّة؟ طارحو السؤال يميلون إلى أنّ السعوديّة تلعب بالورقة الاجتماعيّة من خلال ممثليها الرأسماليين على الأرض، في مقابل طرح مسألة الصلاحيّات من قبل المسيحيين ومسألة انتخاب الرئيس القويّ فضلاً عن التعيينات الأمنيّة. وتشاء، تاليًا، خلط الأوراق لبعثرة الرؤى وتشتتيها عن الهدف الجوهريّ والكيانيّ، لا سيّما بعد الهزائم التي منيت بها في سوريا واليمن. القارئون بعمق للملف اللبنانيّ، يظهرون بأن تيار المستقبل لا يستطيع لوحده تحمّل تبعات التعطيل، ولا قدرة له يلكونها تحرقه بمنتوجه العقاريّ سوليدير، بالمعنى الأمنيّ في دائرة موازين القوى الدقيقة للغاية على الأرض اللبنانيّة. وعلى الرغم من ذلك تبدي بعض الأوساط خشيتها وهي على حقّ من محاولة توظيف الأوراق التكفيريّة على الحدود وفي الداخل لإنهاء عصر الاستقرار الهشّ بترسيخ انفجارات أمنية على خلفيّة طائفيّة ومذهبيّة، تحتجب خلف العامل الاجتماعي وتستهلكه بتوظيف احتجاج بعض الناس على مسألة طمر النفايات في مناطقها، بخلفيّات مذهبيّة محتقنة، فتُدخِل عناصر موتورة بغية إحداث شغب كبير يتسلّل داخل الأنفاق الطائفيّة لينفجر في عمقها. وهذا في طبيعته وارد في ذهن مصادر أمنيّة من خلال تحليل الوقائع على الأرض ويحذّرون من تناميها.
وتقول بعض المعلومات، بأن رئيس الحكومة تمام سلام غاضب جدًّا على تيار المستقبل لزجّه في صراع مع العماد ميشال عون، وبخاصّة، بأن تاريخ آل سلام وصاليّ وطنيّ-ميثاقيّ وعروبيّ، أدّى إلى إحراجه وتاليًا حرقه بإرثه الكبير، وهذا ما ظهر في كلامه في مجلس الوزراء البارحة حين قال بأنّ الاحتمالات مفتوحة على قرارات تخصّه. هذا ذاقه حزب الله بدوره برفضه استقالة الحكومة وشجبه الاعتداء عليه برمي النفايات في محيط منزله. لقد أخذ تيار المستقبل تمام سلام إلى مكان لا يرغبه، إلى صدام مع الآخر أحرجه، وفي مدى أحرقه، وهو عارف بأن السياق الاجتماعيّ بات نتنًا متفلّتًا متّجهًا نحو صفقات لا تليق بمكانته الراقية.
لبنان بتلك العناوين مأخوذ إلى مراحل جديدة. هل تلك العناوين تقودنا إلى اختباط كمقدّمة لتسوية تقود إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة؟ ليس الأمر واضحًا، ولكنّ الاحتقان المتراكم على الأرض قد يكون المقدّمة فيما الأزمة التكوينيّة الكيانيّة مستمرّة، ولبنان باق حتّى إشعار آخر في قلب العاصفة.