لم يضمن أردوغان الحجم المطلوب انتخابياً في الانتخابات التركية التي حصلت خلال الشهور الأولى للعدوان على سورية، كي يمنحه إمكانية تعديل الدستور التركي، لكنّ حجم حضوره الجديد مكّنه من تشكيل حكومة تمنحه السيطرة على تركيا وفق أسس دستورية، وهو أمر ساهم كثيراً في القلق الذي كان حاكماً لكلّ مواقفه وتصرفاته، حيث كان يدرك جيّداً أنّ تمرير السيناريو التونسي أو المصري أو الليبي في سورية سوف يضمن له منصة هامة لحصاد سياسي مقبل، يمكن أن يصرفه على مستوى الداخل التركي، في وجه خصومه السياسيين، خصوصاً أولئك الذين كانوا يقفون ضدّ موقفه من العدوان على سورية.
كان واضحاً أنّ أردوغان بات يعاني معاناة شديدة في ظلّ صمود الدولة السورية، خصوصاً وهو يحاول أن يحاكي الوجدان الجمعي للأتراك، وهو الوجدان الذي يمثل بعداً مذهبياً محدّداً، إذا ما تمّ الاشتغال عليه، فهو ضامن لغالبية طالما تطلع لها أردوغان، فتطلّعه إلى الصلاة في الجامع الأموي، يبقى محاولة فاضحة لمعنى طائفي محدّد، البعض صرفه في سياق مشروع إقليمي، ولم نكن نرى فيه سوى محاولة محاكاة تاريخية يمكن لها أن تساهم في شدّ عصب مذهبيّ معيّن، ينعكس أخيراً في عملية انتخابية طالما عوّل عليها أردوغان ذاته.
لم تستطع الانتخابات التركية الأخيرة أن تمنح أردوغان ما كان يتطلع إليه، ولم تمكّنه من رسم خريطة سلطة جديدة طالما تطلع إليها، خصوصاً حين ندرك أنّه لم يكن يبحث عن تشكيل حكومة يضعها في المكان الذي يريده، بمقدار ما كان يحاول العمل على تعديل دستوري يحاكي تطلعاته وأطماعه في السيطرة المطلقة على السلطة، من خلال العمل على تحويل النظام بكليته من نظام برلماني إلى نظام رئاسي يعطّل إمكانية التأثير عليه من أيّ قوة سياسية أخرى، كما يمنحه عمراً سياسياً جديداً لبقائه في رأس السلطة!
لقد جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة بنهاية أردوغان، وهو ما كان يخشاه تماماً، فكان لا بدّ من البحث عن سيناريوات خروج من أزمته، لكنّ هذه السيناريوات قليلة ومحدودة، وهي تحتاج إلى مواقف سياسية جديدة، تتناقض في بعض خطوطها مع مواقف سياسية سابقة له، خصوصاً لجهة العمل على مواجهة «داعش»، حيث كان أردوغان» المستفيد الأوّل من «داعش»، كون أنّ موقفه منه كان يحاكي وجداناً جمعياً تركياً طالما ركّز عليه أردوغان، خصوصاً حين جرت محاولات تسويق لـ«داعش» على أنّه يمثل «ثورة أهل السنة» في العراق والشام!
في ظلّ مشهد إقليميّ جديد كان يدفع أردوغان باتجاه الوصول إلى حائط مسدود لجهة حكومة تركية مطلوبة خلال فترة دستورية، إضافة إلى صعود خريطة سياسية ناتجة من عملية انتخابية غير ضامنة له الحدود الدنيا للخروج سليماً منها، فكان محكوماً بالذهاب إلى عناوين تمكّنه من منع وجود هذه الحكومة، لكنّها عناوين قادرة على توفير مساحة زمنية كفيلة بمنحه إمكانية إعادة العملية الانتخابية، وهو ما اختاره «أردوغان» مرغماً.
لم يكن ينوي «أردوغان» مواجهة «داعش» أو حتى مواجهة أي فصيل «كرديّ»، فهو بحاجة للاستثمار في «داعش»، كما أنه بحاجة ماسة لإعادة إنتاج نفسه سياسياً في كل الشارع السياسي التركي بكل مكوناته، خصوصاً أنّ حضوره السياسيّ بدا واضحاً ومعروفاً جيّداً، باعتبار أنّ هذا الحضور السياسي له إنما هو حضور كان يقوم على معنى مذهبي وطائفي، ولم يعد يشمل كامل الشارع التركي، وبالتالي فإن مواجهة «داعش» لا يمكنه أكثر من وعائه المذهبي والطائفي الذي وقف إلى جانبه في هذه الانتخابات، خصوصاً في ظل تسويق مذهبي أشرنا له سابقاً، كما أن أي محاولة لمواجهة أي مكون تركي سيفقده أكثر فأكثر هذا الحضور الذي وصف بأنّه ضعيف جداً.
طالما ركّز أردوغان على «منطقة عازلة» في الشمال السوري، باعتبارها تمثّل مخرجاً هاماً لأزمته الداخلية، خصوصاً خلال المرحلة الأخيرة من الوضع الإقليمي العام، غير أنّ الإدارة الأميركية لم تمنحه الموافقة على هذه «المنطقة»، لأنّ «المنطقة العازلة» تحتاج بيئة سياسية إقليمية ودولية محدّدة، وهي لم تتوافر في ظلّ انزياح كبير كان يرافق صمود الدولة السورية وما سميّ «بالاتفاق النووي الإيراني»، بالتالي كان مطلوباً أميركياً من أردوغان مواجهة «داعش» في بعض الرؤوس الناتئة عن الإرادة الأميركية، في مشهد إقليمي ضاغط باتجاه التركيز على «داعش» باعتبارها العدو الجامع لأطراف متواجهة حتى اللحظة.
كان يعتقد أردوغان أنّ مستقبله السياسي كان معلّقاً على قيام «منطقة عازلة» في الشمال السوري، حتى ولو كانت في شكل افتراضي، فهي سوف تمنحه ذريعة الانتخابات المبكرة، كما أنّها لن تضعه في موقع المتناقض مع ذاته سياسياً، حيث أنها سوف تعفيه من مواجهة «داعش»، وهو ما لم توافق عليه الإدارة الأميركية، لأسباب التغيير الكبير الحاصل على مشهد المواجهة الكليّة على مستوى المنطقة والإقليم!
إن ذهاب «أردوغان» إلى فتح جبهات جديدة مع فصيل كرديّ لن يمنحه إمكانية إيجاد العدو الذي يشدّ العصب الجمعي لدى الأتراك، كما أنّه لن يكون غطاء كافياً لتغطية موقفه الجديد من «داعش» أمام ما أنجزه لجهة بعض المواقف الطائفية والمذهبية والتصدير الذي طالما ركّز عليه على أنّ «داعش» تمثل حراكاً في وجه القمع الذي يلاقيه «أهل السنة» خصوصاً على مستوى المنطقة، بالتالي فإن الذهاب بعيداً في هذا العنوان لن يساهم إلا بمزيد من الخسائر التي ستواجهه في أي عملية انتخابية قريبة.
في الشمال السوري يبحث أردوغان عن بقاياه المبعثرة والمضيّعة في حصاد مواجهة لم تضمن له ما كان يبحث عنه في دماء السوريين، حيث أن هذه الدماء لم تؤهّله أن يحكم تركيا ويتفرد بها، ولم تمنحه سيناريو احتمال سقوط الدولة السورية غالبية سياسية يبسط من خلالها سيطرته على الشعب التركي!
من أجل ذلك كان لا بدّ من أن يتوجه أردوغان نحو الشمال السوري، ليس بحثاً عن فتح جديد، أو عن انتصارات يدرك أنها لن تكون، ولا يطارد إرهاباً طالما ساهم في إعداده طويلاً، وإنما بحثاً عن زمنٍ يطيل فترة احتضاره سياسياً!