رسم مقال وزير الخارجيّة الإيرانيّة الدكتور محمّد جواد ظريف معالم المرحلة المقبلة(1)، من وجهة نظر إيرانيّة، ولكنّها مكنونة في رؤاها في قلب المعادلة المطروحة منذ فيينا حتى اللقاء الأخير في الدوحة، وقد كان جوهره استكمال تسويق الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ في الساحة الخليجيّة.
فحوى مقاله تلك التجربة العنيفة سواء في العراق واليمن وسوريا، وفيها تواجهت إيران مع محور كبير ليس هيّنًا احتضن القوى التكفيريّة وهو المحور التركيّ-السعوديّ القطريّ، برعاية دوليّة وإسرائيليّة قبل الولوج إلى مفاوضات "مسقط" غير المعلنة وهي جوهر اتفاق فيينا الشهير، (الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ). وتخترق التجربة ذلك الحجاب وتلك الحواجر المنصوبة ما بين الشام والرياض، وبين طهران والرياض، تائقة نحو حلّ سياسيّ مضمونه احترام سيادة كل دولة في هذا الإقليم المتوتّر، انطلاقًا من قبول الجميع "انتهاء عهد الألاعيب التي لا طائل تحتها". وينطلق من التجربة الإيرانيّة في الصراع، ومن قراءة لواقع هذا الإقليم، "بالطبع ان هذا التعاون الذي لا بد منه، ليس من نوع التعامل المر مع الأعداء، بل هو مسار ذو مذاق حلو للإصلاح والمودة بين إخوة وأعضاء أسرة واحدة ابتعدوا عن بعضهم البعض منذ فترة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ..)(الحجرات: الآية 10)".
ويقترح ظريف اليمن موضوعًا من بين الفجائع في المنطقة، وكأنموذج جيّد للبدء بمباحثات جديّة ضمن منهجيّة "إجراء تقييم ذكيّ للتعقيدات القائمة في المنطقة بهدف انتهاج سياسات مستديمة لمعالجتها"، معتبرًا بأنّ "محاربة الإرهاب واحد من هذه المواضيع، فلا أحد بمستطاعه أن يحارب الجماعات المتطرفة، كالتي تسمى "الدولة الإسلامية" ـ التي لا هي بدولة ولا هي بإسلامية ـ في العراق، في حين تنتشر في اليمن وسوريا".
وفي تشخيص واضح لما خلف سطور المقال، رأت مصادر دبلوماسية مواكبة، بأنّ التفويض قد أعطي ليس في فيينا بل في مسقط على وجه التحديد لترميم نظام إقليميّ جديد جوهره التوازن في علاقة الدول ببعضها، كما المكوّنات المذهبيّة بعيدًا عن سلوكيات الحروب فيما بينها في إقليم أخذ نحوها منذ سنة 2003 أي تاريخ دخول الأميركيين إلى العراق وصولاً إلى الذروة في تفجير المنطقة مذهبيًّا مع اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في لبنان، وقد اشترك كثيرون في تقييم فحوى الاغتيال بأنّه بداءة تدحرج لبنان والمنطقة نحو صراع مذهبيّ قاتل. في تلك اللحظات المصيريّة والخطيرة في آن، التي بلغتها المنطقة في حقبة ما سمي بالربيع العربيّ، وتعاظم دور القوى التكفيريّة وتهديدها الأمن العالميّ باستقراره الوجودي انطلاقًا من الشرق الأوسط، علا مبدأ جديد كان لا بدّ منه لترسيخ مفهوم التوازن في منطقة شديدة التعقيدات، وهو مبدأ "الحرب على الإرهاب"، بتوسّع كونيّ عميم. لقد علا هذا المبدأ على سواه من المبادئ والعناوين المطروحة في سياق النقاش واحتدام الرؤى، لكونه أخذ المنطقة بأسرها إلى تبعثر عبثيّ وتمزّق عدميّ، يشبه إلى حدود كبيرة "صراع الآلهة"، عند الإغريق، أو "صراع الأنبياء" وهو عنوان نحته الرئيس الراحل شارل حلو، للتدليل على ما يمكن أن تبلغه منطقة الشرق الأوسط، وقد بلغته، وأمست الأرض بفعل نيران هذا الصراع يبابًا، كما في رواية توماس إليوت الشعريّة.
من هنا انطلق النقاش بين الأميركيين والإيرانيين، في ترميم نظام إقليميّ جديد، ليس بديلاً عن نظام سايكس-بيكو بالمطلق، وفي خلاصة النقاش السابق لتوقيع الاتفاق، تمّ الإقرار بعدم تجويف جغرافية سايكس-بيكو بالمعنى السياسيّ والأمنيّ، بل اتّفِق على تطويره وتحديثه وإدارته ذاتياً بمعايير جديدة، لأنّ التجويف وبحسب المنطق الإيرانيّ-الروسيّ يرسّخ "الدولة الإسلاميّة"، حيث تقضي في نهاية المطاف على معظم المكوّنات المسماة بالأقليات، وهي في طبيعة تكوّنها وتكوينها السياسي نواة التوازن بمعناه السياسيّ-الاستراتيجيّ. ولعلّ الأرض اليمنيّة والسوريّة منطلقان أساسيّان في التأكيد على حلول سياسيّة، تتأتىّ من حوار كلّ المجموعات المتخاصمة والمحتربة، للوصول إلى حكومة وحدة وطنيّة كما اقترح في اليمن بخصوصيّته الواضحة.
استنادًا إلى ذلك، تقول بعض المعلومات وبحسب بعض الأوساط المتابعة بأنّ اللقاء الذي تمّ في الدوحة، بين وزراء خارجية اميركا جون كيري وروسيا سيرغي لافروف والسعودية عادل الجبير، كان صريحًا للغاية في مسألة ترسيخ الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ، ودور السعوديّة في عمليّة الترسيخ من خلال حضّها على حوار مع إيران بعيدًا عن العشوائيّة الطاغية على دبلوماسيّتها من خلال ما زرعه بصورة متطرّفة وزير الخارجيّة السابق الراحل سعود الفيصل، فيتّسم بالعقلانيّة المستشرفة لعالم ما بعد الاتفاق، أي لفحوى النظام الإقليميّ الجديد في الساحات السوريّة والعراقيّة واليمنيّة واللبنانيّة. ويتطلّب هذا الاستشراف سلوكيّات نقديّة يقودها وليّ وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان بهدوء عاقل وملحوظ استجابة للمسعى الروسيّ المدعوم أميركيًّا، وقد جاء اللقاء بينه وبين رئيس مكتب الأمن القوميّ السوريّ اللواء علي مملوك وهو المتهم من السعوديّة ومن الموالين لها في لبنان بملفّات ساخنة، تتويجًا لهذا المسعى وانفتاحًا على الواقع الجديد.
أمام هذا المشهد، تفيد المعلومات بأنّ الأتراك يحاولون التموضع بعد فشل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالدخول الخجول على خط ضرب "داعش"، والتسليم بالدور الأميركيّ بتقديم قاعدة أنجرليك لها، ومحاولة إقامة توازن مضاد بين الحرب على الإرهاب ومن ثمّ مهاجمة الأكراد وحزب العمال الكردستاني PKK، والتضاد هنا لن يخدم تركيا بشيء لكون الأكراد حاجة أميركيّة وإيرانيّة على السواء في مشروع النظام الجديد للمنطقة. ولذلك يسهّل الأميركيون بوضوح تام الدور الكرديّ على الأرض في الحرب على "داعش" كما في تل أبيض وكوباني، وكما هو منتظرٌ في سهل الغاب ومحيطه، وبرز ذلك في غير موقع. وقد صحّ القول بانّ الاتفاق قد كُتِب في الميدان على الأرض بوجود قائد "فيلق القدس" اللواء قاسم سليماني سواء في العراق أو في سوريا، قبل أن يُكتَب على الورق.
ليس الأمر محصورًا في هذه البقعة بل أن الأوروبيين كما الأميركيين وبحسب معلومات واردة وبوحي من هذا الاتفاق عينًا يحضّون الليبيين والتوانسة على إقامة حكومة وحدة وطنيّة، لتكون المنطلق للحرب على الإرهاب الداعشيّ المستقرّ محاذاة أوروبا على الشواطئ الليبية والتونسيّة.
أمّا لبنان فإنّ المسألة طويلة، وما قاله رئيس المجلس النيابي نبيه برّي بأنّ اللبننة قد انتهت واقعيّ. قد يكون ناتجًا من خيبة، أو من فشل في وصول رئيس توافقيّ اشترك في تحديده مع النائبين فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط. قواعد اللعبة في المنطقة كلّها قد تغيّرت، والنظام الإقليمي الجديد الراسي بين سوريا واليمن ميدانيًّا سيحدّد مصير لبنان ونظامه السياسيّ بالعناوين المطروحة في سياقٍ تكوينيّ وكيانيّ.
(1)في مقالٍ له نُشِر في عددٍ من الصحف بينها صحيفة "السفير" اللبنانيّة و"الراي" الكويتيّة، أعلن ظريف أنّ إيران تنشد علاقات طيبة ووطيدة مع جيرانها، مشيراً إلى أنّ جولته الإقليمية الى ثلاث دول جارة هي الكويت وقطر والعراق مباشرة بعد حصول الاتفاق النووي التاريخي بفيينا بين إيران والدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن وألمانيا، إنما جاءت تأكيدا لهذه الاستراتيجية التي توليها السياسة الخارجية الإيرانية اهتمامها.