لا يختلف إثنان على أنّ مرحلة ما بعد الإتفاق النووي الإيراني مع الدول الغربيّة هي غير ما قبله، خاصة لجهة توقّع إنطلاق مجموعة واسعة من المُبادرات ومن جولات التفاوض في محاولات جدّية للبدء بحلّ المشاكل الإقليميّة العالقة والتي باتت تُهدّد إستقرار منطقة الشرق الأوسط بكاملها وحتى الإستقرار العالمي في بعض الأحيان. ولا شك أنّ الحركة السياسية الناشطة على الساحتين الإقليميّة والدوليّة تصبّ في هذا الإتجاه، وكان لافتاً مُسارعة إيران إلى الإعلان عن "مُبادرة حلّ مُعدّلة للأزمة السوريّة"(1). فما قصّة هذه المُبادرة وهل توجد فُرصة لنجاحها؟
في خلاصة لمجموعة من أبرز المُحلّلين الغربيّين، إنّ لقاء كلّ من وزير الخارجية الأميركي جون كيري ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مرّتين في غضون ثلاثة أيّام ليس من باب الصدفة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحركة الدبلوماسيّة الكثيفة التي تقوم بها كل من إيران وقطر وسلطنة عمان، وإستدعاء وزير الخارجية السوري وليد المعلّم إلى طهران. وأجمع هؤلاء المحلّلين على أنّ إيران التي تعلم علم اليقين أنّ الوقت حالياً مثالي لمحاولة إيجاد تسويات لمشاكل المنطقة العالقة، إستبقت الجميع بالإعلان عن مُبادرة لحلّ الأزمة السورية، وهي ترمي إلى تحقيق جملة من الأهداف من خطوتها هذه، أبرزها:
أوّلاً: إستغلال الرغبة الدَوليّة الجامعة بتحقيق مكاسب إقتصاديّة وماليّة بعد رفع القيود عن إيران، للتفاوض من موقع قُوّة، حيث أنّ الجميع يريدون فتح صفحة جديدة خالية من الخلافات مع النظام الإيراني.
ثانياً: الإستفادة من الإجماع الدَولي على محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، ومختلف الفصائل التي على شاكلته، لتقديم نفسها "رأس حربة" في هذا المشروع، ومحُاولة تقديم "الحلفاء" الإقليميّين كأعضاء مشاركين فيه أيضاً.
ثالثاً: الإستفادة من الدعم الروسي الذي تلقاه الجهود الإيرانيّة، ومن التفويض السوري الذي نالته طهران للتفاوض بالنيابة عن النظام السوري، لتعزيز الشروط وإستغلال قّوة إيران الإقليميّة والدوليّة.
رابعاً: إستباق أيّ مُبادرة حل قد تُقدّمها الولايات المتحدة الأميركيّة، بالتوافق مع دول الخليج وربما مع تركيا، وقطع الطريق على أيّ تحريك للمبادرات الدَوليّة السابقة، وفي طليعتها مؤتمري "جنيف 1" و"جنيف 2".
خامساً: الإلتفاف على التحرّك العسكري التركي المُرتقب لفرض "منطقة آمنة" بالقوّة بمحاذاة الحدود التركيّة-السوريّة، بسبب التخوّف من أن تتحوّل هذه المنطقة إلى ملجأ لكل اللاجئين المُعارضين للنظام السوري، وإلى نواة لقيام مُعارضة داخليّة مدعومة من الخارج.
سادساً: الإستفادة من تشتّت "المعارضات السوريّة"، ومن إشمئزاز عدد كبير من السوريّين من إرتكابات بعض الجماعات الإرهابيّة في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، لمحاولة تسويق حلّ يحفظ موقع الرئيس السوري بشّار الأسد على رأس السلطة التنفيذيّة.
وبالنسبة إلى فرص نجاح المبادرة الإيرانيّة المُعدّلة للحلّ في سوريا في المرحلة الحالية، فهي ضعيفة جداً، لأنّ التوقيت الروسي-الإيراني لا يُناسب التوقيت التركي-الخليجي، حيث تتطلّع تركيا إلى تعزيز أوراقها التفاوضيّة في المُستقبل القريب، عند رفع مستوى تدخّلها في الحرب السوريّة بحجّة "المواجهة الشاملة" مع إرهابيّي "داعش" ومع المسلّحين الأكراد الذين يتعرّضون للمصالح التركيّة، في حين تتطلّع دُول الخليج إلى تعزيز موقعها التفاوضي في المستقبل القريب أيضاً، بعد تثبيت تقدّمها في اليمن، وبعد الحصول على المزيد من المكاسب من الإدارة الأميركيّة(2). أكثر من ذلك، إنّ أبرز العراقيل أمام نجاح مُبادرة الحل الإيرانيّة تتمثّل في التباين الأساسي بين التمسّك الروسي-الإيراني بالرئيس بشّار الأسد ونظامه، بحجّة الخوف من تنامي ظاهرة الإرهاب في حال تغييب السلطة المركزيّة كلّياً، في مُقابل الدعوة الأميركيّة – الخليجيّة إلى تشكيل "هيئة حكم إنتقالي" إنطلاقاً من قرارات مؤتمر "جنيف واحد"، والتي شدّدت مُقرّرات "مؤتمر القاهرة" الذي عقدته الشخصيّات والهيئات السوريّة المعارضة في الماضي القريب، على ضرورة تطبيقه بحذافيره للخروج من الأزمة. ومن ضمن العراقيل المهمة أمام إمكان نجاح التسوية الإيرانيّة المُقترحة تقديمها من قبل طرف متورّط في الحرب السوريّة، تمويلاً وتسليحاً، من دون أن يكون لأطراف أخرى مؤثّرة أيّ دور في طرح بنود الحلّ، وهو ما يُشكّل خللاً بنيوياً أساسياً. ولا ننسى الإشارة إلى أنّ طارحي الحلّ والجهات المُروّجة له، لا تمون سوى على الجيش السوري والقوى الحليفة له، حيث أنّ كل الفصائل المُسلّحة المُدرجة تحت خانة "المعارضة"، أكانت مُصنّفة "مُعتدلة" أم إرهابيّة أو غير ذلك، هي خارج تأثير الجهات المفاوضة. حتى أنّ رئيس "الإئتلاف الوطني السوري" المُعارض، خالد خوجة، الذي جرى إنتخابه للمرّة الثانية، والذي يُنتظر أن يتوجّه إلى روسيا قريباً جداً لبحث الملفّ السوري، هو عاجز عن التحدّث بإسم المقاتلين على الأرض!
في الختام، الأيّام والأسابيع وحتى الأشهر القليلة المقبلة، ستحمل الكثير من المبادرات والعديد من جولات التفاوض، والعديد من محاولات التسوية، لكنّ نجاحها لا يُمكن أن يتم إلا إذا كانت متوازنة وتستجيب لأكبر قدر من مطالب الأطراف المُتواجهة، وإلا فإنّ الحرب السورية ستبقى مفتوحة إلى حين نجاح جهة ما بفرض شروطها على الآخرين بالقوّة العسكريّة.
(1) تتضمّن المُبادرة الإيرانيّة أربعة بنود رئيسة، هي: وقف فوري للنار، وتشكيل حكومة وحدة وطنيّة، وإعادة تعديل الدستور السوري بما يتوافق وطمأنة المجموعات الطائفيّة والإتنيّة في سوريا، وإجراء إنتخابات بإشراف مُراقبين دوليّين.
(2) إشارة إلى أنّ واشنطن "سلّفت" دول الخليج أخيراً إتفاقات لإقامة نظام دفاع صاروخي مُضاد للصواريخ الباليستيّة، ولتنفيذ تدريبات عسكريّة مُشتركة، ولتبادل التعاون الإستخباري، ولتسريع عمليّات نقل الأسلحة التي سبق أن تمّ شراؤها.