لم تحجب سيطرة "داعش" على قرية القريتين في ريف حمص وفي الطريق بينها وبين تدمر، كما احتشاد جيش الفتح في شمال سوريا، تجليّات اللقاءات المكثّفة ما بين موسكو والرياض وطهران ومسقط.
أسئلة كثيرة ستطرح في سياق النقاش حول صدق الأميركيين بالدرجة الأولى في مسألة القضاء الجذريّ على تنظيم "داعش". وتتمحور في جوهر المعايير المتبعة لهذا القضاء الجذريّ، سيّما أنّ الخلاف بين الولايات المتحدة الأميركيّة وروسيا لا يزال محصورًا حول النهج المشترك في الحرب على الإرهاب التكفيريّ، يشي بذلك كلام وزير خارجيّة روسيا سيرغي لافروف: "إنّ روسيا والولايات المتحدة الأميركيّة لم تتمكنّا حتّى الآن من التوصّل لنهج مشترك للتصدّي لتنظيم داعش"، ويكمل قائلاً موجّهًا كلامه للمعارضة السوريّة، وكأنّه يوجّهها بطريقة غير مباشرة إلى من لا يزال يستهلك الورقة الإرهابيّة في معركة تجذير الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ، وبخاصّة في إطار تحقيق المكاسب بأحجام متنوعة في الساحات الملتهبة: "إنّ المكاسب التي حققها التنظيم على الأرض تحتّم حتّى على مجموعات المعارضة المسلّحة السوريّة التعاون مع دمشق في قتال العدوّ المشترك". ويأتي كلام لافروف متمّمًا كلام وزير الخارجيّة الإيرانيّ الدكتور محمد جواد ظريف: "إنتهى عصر الألاعيب"، مع البدء ببناء نظام إقليميّ جديد، ينطلق من حلف نظّر له الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين بدقّة بليغة وصلت نحو حدود "المعجزة"، ويتلاقى حتمًا مع جوهر الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ في استعادة التوازن تنطلق من نمطيّة "الحرب على الإرهاب"، سواء في المشرق العربيّ أو مغربه بمحاذاة الشواطئ الأوروبيّة.
وعلى اعتبار أنّ الجميع متفق على محاربة تنظيم "داعش" وبصورة أعمّ على محاربة "الدولة الإسلاميّة" بكلّ أبعادها، وقد رفض ظريف في مقالته الأخيرة تسميتها بالدولة بما تكتنزه من صفة، فلماذا لم يتوصل الأميركيون والروس إلى نهج مشترك للتصدّي لهذا التنظيم المتوحّش، وهل لا يزال هذا التنظيم مع كلّ الحركات المتطرّفة حاجة أميركيّة، لماذا لا يزال في سوريا يسيطر في أمكنة، ولماذا لا يزال السعوديون والأتراك يستهلكون جيش الفتح، وهو جيش أسس بدعم سعوديّ؟
تجيب مصادر مطلعة على تلك الأسئلة بجواب واضح، الجميع متفق على القضاء على التنظيمات الإسلاميّة والأصح أن يقال الإسلامويّة المتشدّدة، ولكنهم مختلفون على التوقيت والمعايير حتى إقرار الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ، حتّى تتضح كخلاصة للنقاشات والمباحثات الدائرة في العواصم المذكورة، معالم النظام الإقليميّ الجديد، مستندين في الوقت عينه على المعارك الميدانيّة الدائرة على الأرض وبخاصّة في سوريا، والمعارك بحدّ ذاتها جزء من عمليّة التفاوض والمباحثات هنا وهنالك.
وعلى الرغم من كون المعارك لا تزال جزءًا من "ميكانيزم" التفاوض والتباحث في تلك العواصم، يجدر بالمتابعين التوقّف من جديد أمام مشهد اللقاء بين اللواء علي المملوك والأمير محمد بن سلمان وبرعاية روسيّة، وقد ظهر بطبيعته المنطلق لزيارة وزير الخارجية السوريّة وليد المعلّم إلى طهران، والأهم الدعوة التي وجّهها وزير الخارجيّة العماني يوسف بن علويّ لنظيره وليد المعلّم لزيارة مسقط وقد زارها بعد قطيعة طويلة. لا تنحصر العمليّة بشكل الزيارة، بل بالدور الذي تقوم به مسقط بالإزاء مع طهران وبتفويض دوليّ واضح، لإتمام لقاءات واضحة تجمع وزراء خارجية سوريا والسعوديّة وإيران. ذلك أنّ الحوار السوريّ-السعوديّ بات مطلوبًا، كما أنّ الحوار الإيرانيّ-السعوديّ بدوره بات ضرورة على الرغم من التباعد العقائديّ والمذهبيّ والقوميّ الناشئ، ليبلغ مقام التعاون والمسار استنادًا لتوصيف ظريف بأنّه "ليس من نوع التعامل المرّ بين الأعداء، بل هو مسار ذو مذاق حلو للإصلاح والمودّة بين إخوة وأعضاء من أسرة واحدة ابتعدوا عن بعضهم البعض منذ فترة". وتنطلق تلك الحوارات في ظلّ حوارين أساسيين واحد روسيّ-سعوديّ، وآخر سوريّ-أميركيّ، تظهر المعلومات بأنّه قد بدأ، وهو مرشّح للاستمرار في إطار الحلّ السياسيّ في سوريا وقد بات مطلب جميع القوى التي احتربت فيها وعليها، وتذهب للتفاوض ليس على اقتسامها، بل على توطيد شرعية الدولة ورئيسها بوجه التيارات التكفيريّة.
غير أنّ ما هو لافت في سياق الحديث عن محتوى التفاوض الدائر سواءً في لقاءات ظريف-المعلّم، أو في إطار لقاءات مُسقط في سلطنة عمان، ما رشح من عناوين في متن المضمون، كمثل مكافحة الإرهاب التكفيريّ وتصفيته وهو عنوان العناوين في تلك الظروف الراهنة، وتخفيض منسوب الصراعات الجيو-سياسية المذهبيّة والتعاون الدوليّ-الإقليميّ لإعادة بناء سوريا، لكنّ المطلب الأساس في التكوين السوريّ اللافت بصورة فاقعة هو كتابة دستور جديد تمهّد لكتابته حكومة وحدة وطنيّة. هذا البند ليس بندًا عارضًا في بنى الدولة الدستوريّة والسياسيّة، بل هو بند تكوينيّ دستوريّ وسياسيّ يجب أن يتمتّع بموافقة الجميع في إطار المشاركة الفعليّة بين مكوّنات سوريا.
وفي لبنان لم يعد هذا النظام السياسيّ المبنيّ على استقرار هشّ ومعطوب قابلاً للحياة، في ظلّ انخفاض منسوب الحلول الجذرية، وارتفاع الحلول التسوويّة المتحايلة على طائف ولد في أساسه ميتًا، واستعمل كورقة تسوويّة أمنّت الإمساك بهذا الوطن الذبيح، وظلّ الوطن تحت ظلّ تلك التسوية ينطلق من وصاية إلى وصايات تشدّ خناقها عليه.
ولذلك ليس لبنان بعيدًا عن تلك القراءة، بل عن مؤتمر تأسيسيّ جديد في ظلّ انعدام أفاق الحلول. وغالب الظنّ أنّ الانتخابات الرئاسيّة في لبنان لن تحسم ولن تحسم العناوين المرتبطة بشرعية المجلس النيابيّ وحكومة وحدة وطنيّة جديدة وقانون انتخابات جديد، قبل البتّ في العنوان السوريّ، مما يبقى مسار الأزمة اللبنانيّة في السلم والحرب مرتبطًا بمسار الأزمة السوريّة، بعد تلك الصفقة التي لم ينتبه إليها أمراء الرابع عشر من آذار ولم يضعوها في حسبانهم مراهنين على انقلاب بات صرحًا من خيال فهوى.
المنطقة المشرقيّة اليوم بين مفهوم القضاء على الإرهاب وكتابة دستور جديد بين لبنان وسوريا، وحتّى ذلك الحين سيبقى مخاض التفاوض والمباحثات مقترنًا بالمعارك على الأرض، حتى الخلوص إلى نتيجة نهائيّة ستملى على الجميع ليس في سوريا بل في لبنان، لأنه البلد الوحيد المتلقي وغير الفاعل في كلّ ما يحدث من حوله.