لإيران خصوم وحلفاء في حيرة من أمرهم هذه الايام. واضح أن هناك من بات أكثر تدقيقاً في كل ما يصدر عن طهران. بين مصرّ على تغييرات جوهرية في طريقها الى التحول وقائع ثابتة، ومن يدعو الى التعامل على أساس أن لا شيء قد حصل. لكن قلة فقط ممن تربطهم علاقات تاريخية بإيران الاسلامية يدعون الى الهدوء، وعدم الذهاب بعيداً في الاستنتاجات.
في منطقتنا ملفات ساخنة وأخرى باردة، لكن الابرز، اليوم، ما يخص سوريا واليمن، حيث المواجهات العسكرية على أشدها. وحيث الجميع يقف أمام الجدار بالنسبة إلى مستقبل الحل. الانخراط الايراني في حركة الاتصالات الاقليمية والدولية يبدو بالنسبة الى البعض حاملاً جديداً نوعياً، علماً بأن الجديد الفعلي، هو أن المحادثات الاقليمية والدولية التي كانت تجري سابقاً لم تكن تستثني إيران، لكن الغرب ودولاً كثيرة لم تكن تتصرف براحة كما هي الحال الآن. ببساطة، يمكن مراجعة مفكرة وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف لرؤية حجم التواصل المباشر بينه وبين نظرائه في الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي ودول خليجية بشأن ملفي سوريا واليمن، وهو ما يفرض، بالشكل أقله، صورة مختلفة عن السابق.
الجديد، اليوم، هو أن الغرب بات مقتنعاً، ويصرّح، بأن لا مجال لحل سياسي في سوريا واليمن من دون إشراك إيران. وإذا كانت الرياض تمثل الصوت الاعتراضي الأبرز، فهي تدرك أن موقفها لا يعدو كونه محاولة لرفع الثمن. كذلك تعرف جيداً أن أي تفاوض فعلي حول ملفي سوريا واليمن لا يمكن بحثه بعيداً عن طهران. والجديد الاضافي هو رهان الغرب ودول عربية، من بينها السعودية، على أن إيران باتت مضطرة إلى ممارسة الضغط المباشر على حلفائها في دمشق وصنعاء لفرض تنازلات، وهنا، يمكن البحث عن السؤال الأهم: هل هناك تغييرات فعلية في الاستراتيجية الايرانية حيال سوريا واليمن؟
ما يحصل اليوم لا يظهر، على الاطلاق، أي تغيير، ليس في برامج العمل اليومية، بل حتى في الخطط المقرّة للمرحلة المقبلة. بل إن إيران باتت، اليوم، أقل تدخلاً في كثير من التفاصيل. وهو أمر لمسه الاميركيون والاوروبيون مباشرة في مسألة اليمن، عندما رأوا في مفاوضات مسقط أن تنظيم «أنصار الله» ليس واقعاً تحت سيطرة إيرانية تجعله رهينة ما تقرره طهران. وفي سوريا، لمس الغربيون أيضاً أن تفاعل دمشق مع المبادرة الروسية الاخيرة لا يعطي الانطباع بأن سوريا غير قادرة على التحرك من دون إذن طهران.
في سوريا، تتقدم طهران بمبادرات تقوم على أساس أن النظام الموجود هو حجر الزاوية في أي عملية سياسية، وأن أي تغييرات على صعيد بنية المؤسسات الحاكمة لن تقوم وفق آليات تجعل سوريا في مكان آخر، لا سياسياً ولا على مستوى وحدتها كدولة. حتى البند الذي تضمّنته المبادرة الايرانية، المتعلق بمنح أقليات إثنية أو قومية أو حتى طائفية خصوصية ما، لا يخرج فعلياً عن سياق المحادثات التفصيلية الجارية منذ 3 سنوات مع الدول المعنية. وهو يخص، عملياً، التعامل بذهنية مختلفة مع الاكراد، علماً بأن أي خطة تقرّ ستواجه عقبات هائلة خلال التنفيذ. أما الامر الآخر، فيتعلق بالشراكة داخل الحكم، وهو ما يحاكي احتجاجات قوى وقيادات إسلامية تتهم حزب البعث، ومن خلفه طبقة من العلويين، بالتحكم في مفاصل الحكم في سوريا، وتطالب بكسر هذه القواعد.
صحيح، وصحيح جداً، أنه يجب عدم الذهاب نحو دستور يقود سوريا الى واقع مقسم وفق اعتبارات مقيتة. ولنا في لبنان درس ماثل، يليه درس العراق المنكوب. لكن أولوية وقف الحرب لم تعد تحتمل الوقوف عند شعارات أو أهداف أصابتها الحرب بجروح عميقة.
في اليمن، لم تكن إيران أصلاً خلف كل حركة الاحتجاج المتعاظمة لأنصار الله ومن معها من قوى سياسية. لكنها لم تقف في مواجهة انتفاضة تسعى الى استقلال حقيقي لليمن. وهي لن تقف مكتوفة الايدي أمام حرب مدمرة تشن ضد الشعب اليمني. مع ذلك، فإن كل الاتصالات التي أجرتها إيران حول اليمن، كانت تركز على سبل العودة الى الحوار. وهي عندما تقبل ذلك، تعرف أن الامور لا تبقى على الصورة التي قامت يوم توسع الحوثيون والجيش صوب كل اليمن. وبالتالي، فإن ممارسة إيران لدور أكبر، في سياق إقناع حلفائها اليمنيين بالذهاب سريعاً نحو تسوية، لا تجعلها في موقع من يمارس الضغط لتقديم تنازلات جوهرية، بل من يسعى الى وقف العدوان والحرب، وهو أولوية تسبق أي أولويات أخرى. وتدرك إيران، كما كل العالم، أن لا عودة الى الوراء في ما خصّ واقع اليمن، وأن أقصى ما يمكن للسعودية ومن معها أن تحصّله الآن هو شراكة تمنع عنها السيطرة الأبدية على اليمن، عدا عن كون إيران لا تبكي حزناً على التورط السعودي في اليمن وغيره.
الحقيقة، أن في إيران الجديدة ما يجب متابعته. لكن الأهم أن يلتفت حلفاء إيران، كما خصومها، الى موقعها الجديد في المنطقة والعالم. ومن يحسن القراءة، سيحصد الأفضل!