لم تعد صناعة المراكب الخشبية في مدينة الميناء مزدهرة كما كانت في السابق، فهذه الحرفة باتت على طريق الاندثار، فالتطور "خرّب" كل شيء وأضعف الحرف القديمة التي كانت تقوم على اليد العاملة وفنها وحرفيتها.
إنطلق قبل الميلاد اول اسطول بحري بقيادة انتيغونس احد خلفاء الاسكندر الكبير الذي اهتم ببناء اهم المراكب والسفن في مدينة الاسكلة (الميناء). حينها صنعت المراكب بأخشاب الاشجار التي احضرت من جبال لبنان. وايضا ازدهرت هذه الصناعة في عهد المماليك، ورغم صعوبة احتراف هذه المهنة، نجح ابناء الميناء باتقانها والمحافظة عليها ونقلها من جيل الى آخر، لكن صنّاع المراكب اليوم بات عددهم لا يتجاوز الخمسة، معظمهم انتقل الى مناطق بعيدة عن البحر بحثا عن مورد الرزق، ومن بقي منهم يشكو غياب الدولة عن دعم ابرز الصناعات التاريخية، ولا يخفي قلقه على مصير هذه المهنة بعد سنوات.
مهنة الأجداد
يقول أحمد كيلو الذي ورث هذه المهنة عن أجداده "ان جذور عائلته من مدينة صيدا لكنها انتقلت منذ عشرات السنين للعيش في ميناء طرابلس"، ويروي كيلو تاريخ عائلته مع هذه الصناعة، مشيرا الى انها مهنة الاجداد وتوارثها الابناء عن الاباء، لكن ابنه لن يرثها لانه وجد فيها شقاء والده وتعبه نقش في الوجه واليدين، فهذه المهنة تحتاج الى سواعد بحار تطوع الخشب على النار".
يعتبر أحمد كيلو ان صناعة المراكب باتت اليوم مهنة اشغال شاقة، فكل مقوماتها واحتياجاتها غير متوفرة اليوم، من انقطاع التيار الكهربائي والعمال وأراض مخصصة للتصنيع بعيدة عن ازعاج السكان، ويشكو ما وصل اليه الوضع حيث ان تصنيع مركب صغير بحجم خمسة امتار كلفته تصل الى خمسة الاف دولار اليوم، ومعظم الصيادين فقراء يعجزون عن تصنيع مراكب جديدة، فيعتمدون الصيانة الدائمة لمراكبهم وتصليحها، اما الميسورين فمعظمهم من هواة الاستيراد من الخارج.
وأيضا من المشاكل التي تعتري هذه الحرفة في ايامنا هذه، صعوبة الحصول على الاخشاب المناسبة، فهو ليس بالامر السهل، فأشجار التوت والتي نعتبرها الافضل غالية الثمن، وغيرها ايضا كشجر المقنو الذي يصل سعر المتر فيه الى 1600 دولار، وأيضا أشجار السرو والكينا والتي تعتبر جيدة لتصنيع المراكب فإن الحصول عليها ليس امرا يسيرا.
إمكانيات لا تلبّي الطموحات
بداية تصنيع المركب في مراحله الاولى يبدأ مع البرايم (البدن) ثم تركيب الاضلاع ثم الزنار ثم البطانة والميدا وسكوجات ثم السقالة والعنبر والباطوس وهذه كلفتها خمسة الاف دولار تقريبا.
ويقول كيلو ان امكانياتهم لا تلبي اليوم طموحات الهواة فالامكانيات لديهم محدودة جدا تمنعهم من تصنيع مركب يتعدى السبعة امتار بالطول، ويرى ان الدولة لو ساهمت في دعم هذه المهنة لرأينا صناعة مراكب تبهر الناس لاننا نمتلك مهارات عالية، لكن غياب كل اشكال الدعم ادى الى تراجع هذه المهنة وربما الى اندثارها، واخشى ان تموت معنا هذه المهنة، لاننا لم نعلمهـا لاولادنا كما فعل اباؤنا، فهذا الزمن لا يشبه ذاك الزمن، فتصنيع المراكب يعتبر اشغال شاقة يحتاج الى عشرات العمال ونفقات التصنيع مكلفة وايضا اليد العاملة.
لنتعظ من سوريا!
كل تلك الاسباب المذكورة آنفا ادت لتراجع قطاع صناعة المراكب في لبنان، بينما في سوريا مثلا تشهد هذه الصناعة انتعاشا واسعا، فرغم ما يمرون به بقيت الدولة السورية تدعم هذه الصناعة من خلال تخفيض سعر الاخشاب لصنّاع المراكب حصرا ما اتاح لهم المجال في تأمين معيشتهم. وهنا يتساءل كيلو: "لماذا لا تقوم حكومتنا بخطوة مماثلة، عدا عن اننا نحتاج الى ارض مساحتها 500 متر مربع نعمل فيها، بدلا من العمل في مكان مساحته ضيقة تعيق عملنا وتحركاتنا عدا عن ازعاج المواطنين؟"
ويضيف: "ان احد اشهر صانعي المراكب اليوم على مستوى لبنان والعالم كله ترك الميناء ويعمل خارج المدينة بدلا من ان يتحول مصنعه الى مدرسة تطبيقية تخرج مئات صناع المراكب ثم تتلقفهم الدولة وتبني لهم اهم المصانع لبناء السفن لتعود منطقة الميناء كما كانت عبر تاريخها اهم مرفأ لتصدير السفن والمراكب بدلا من استيرادها".
تكفي هذه الاطلالة البسيطة على صناعة المراكب في الميناء لمعرفة "الدرك" الذي وصلت اليه هذه الحرفة التاريخية، والذي وصلت اليه حرف تاريخية اخرى بسبب غياب الدولة المتمادي عن دعم كل ما هو تاريخي وجميل.