للبنان حكاية مع الكنائس لا تنتهي، فهو كان منذ فجر المسيحيّة وانتشارها الملجأ الحصين لكل مؤمن، فأرض لبنان(1)المقدّسة كانت المكان الأمثل للتضرّع والصلاة ولهذا انتشرت فيه الكنائس مع نشأة المسيحيّة على كامل أرضه، وقد نالت العذراء مريم(2)النصيب الأكبر(3)منها وإحداها سيدة الحصن. ويحتفل لبنان والعالم بعيد ميلاد العذراء مريم في الثامن من أيلول وبعيد انتقالها بالنفس والجسد في الخامس عشر من آب(4).
الكنيسة القديمة
تقع سيدة الحصن على رأس تلّة من الناحية الشمالية الغربية لإهدن، وتشرف على شمال لبنان وصولا الى الاراضي السورية. يعود تاريخها الى حوالي الألفي سنة حين بنى الاهدنيون حصناً منيعاً وقلعة حربيّة لصدّ هجمات الأعداء، أما اليوم فتتواجد في ذاك المكان كنيستان لسيدة الحصن، واحدة قديمة معقودة بالاحجار ومبنية على الصخر وفيها مذبح واحد وأخرى حديثة.
خط الدفاع الاول
في السرد التاريخي لهذه القلعة الحربية التي تحوّلت اليوم مزاراً عالمياً يقصده المؤمنون من مختلف أنحاء العالم، يروي الأب يوسف يمّين بشغف تاريخ هذا المزار: "في القرن الخامس ميلادي بعد المسيح توافد المسيحيون الى الشمال وقد بدأوا بتشييد الكنائس، أولها كان عام 749 حيث شيّدوا كنيسة "مار ميما" وسمّيت هكذا تيمنا بشفيع المردة "ميما" وتعني التمرّد على السلطة، فيما بنوا عام 750 سيدة الحصن وهي شكّلت خط الدفاع الأول لأهالي اهدن القدماء"، ويلفت يمين الى أن "أهالي اهدن اشتهروا بتكريمهم للعذراء مريم واعتبروها منذ القدم الحامية لهم، من هنا بنوا معبداً للحصن لردّ هجمات الأعداء".
بنيت سيدة الحصن على أنقاض معبد وثني قديم للآلهة "عنات"(5)إبنة الإله "إيل" وكانت عذراء وبتول ومحاربة. هذا ما يؤكده الأب يمين، لافتاً الى أن "المماليك حاصروا إهدن في العام 1283 وهدموا القرية بالاضافة الى الحصن الذي يقع على رأس التلة"، مشيراً في نفس الوقت الى أنه "وبعد ثلاث سنوات أعاد الأهالي بناء كلّ ما تهدّم في القرية والكنيسة القديمة".
الكاتدرائية الحديثة
أصبحت كنيسة سيدة الحصن الجديدة مزاراً مريمياً يقصده أهالي اهدن ولبنان اضافة الى السواح من أنحاء العالم. شيّدت بجانب الكنيسة القديمة ودشّنت عام 1989. وهنا يلفت كاهن رعية اهدن زغرتا اسطفان فرنجية الى أنها من الطراز الهندسي المميّز مصنوعة من الباطون وليس من الحجر تحمل شكل القلعة من الخارج نظرا لكونها كانت ملجأ حربياً في السابق"، ويضيف: "يعلو تلك الكنيسة تمثال للعذراء مريم يشرف على مدينة اهدن ويحمي أهلها".
ويلفت فرنجية الى أن "الكاتدرائية الحديثة المستديرة الشكل تحتوي على العديد من الأيقونات"، مشيرا الى أن "صورة العذراء الموجودة في الكنيسة هي من الرسم الزيتي للرسّام بول خوام، أما الزجاجيات فهي من رسم الاب عبدو بدوي".
يقصد المؤمنون المزار للتبرك منه وأخذ النعم ويتوافد الاهدنيون واللبنانيون الى ذاك المكان المقدس خاصة في عيد مولد العذراء مريم في 8 أيلول. وهنا يشير الأب يمين الى أنه "ورغم إيماننا الكبير بسيدة الحصن إلا أن الأعاجيب كانت تحصل في سيدة زغرتا".
يعدّ جبل سيّدة الحصن في إهدن من أهم المواقع الطبيعية في لبنان لأهميته الجغرافية، وقد أصبح هذا المزار المريمي قبلة أنظار الحجاج من كل الارض كما أصبح مكانا لإحياء المناسبات الدينية في وقت يعاني فيه مسيحيو الشرق الأمرّين من قتل وتهجير عسى أن تكون العذراء مريم هي الحصن المنيع المرافق لهم في محنهم، وحصنا لحياتنا ومجتمعنا ووطننا لبنان.
تصوير تلفزيوني علاء كنعان
(1)ورد اسم لبنان في الكتاب المقدس نحو 70 مرة، والأرز 75 مرة، ومدينة صور 59 مرة، وصيدا وصيدوني 50 مرة. كذلك جاء الكتاب المقدّس على ذكر نحو 35 مدينة وقرية جميعها في زمننا ضمن حدود لبنان المعروفة حاليًّا: صور، الصرفند، قانا، يارون صيدا، جبيل، أفقا، عنجر. وتحدث الكتاب المقدس عن أحد عشر شخصية لبنانية من أشهرها حيرام ملك صور، وأثبعل ملك صور أيضا وابنته ايزابيل، ومهندس هيكل سليمان حورام-آبي، وآساف حارس غابة لبنان، وهدد عزر ملك سهل البقاع ورئيس جيشه رزون بن أليداع. ويرِدُ في الكتاب المقدس حقائقُ عن عظمةِ صُور واتساعِ نشاطها التجاري، وأهميةِ صيدونَ وشعبِها، ونشاطِ الفينيقيين التجاري والبحري، وزيارةِ المسيح الى جنوبَ لبنان في صيدا وصور وتَجَلّيه على جبل حرمون. وتحدث الكتاب المقدس عن لبنان من ضمن واقع الأحداث التاريخية التي مرت على هذه المنطقة بين الأعوام 1500 ق. م. و 100 ب. م.
(2)اسم مريم عبري معناه "عصيان" وهو اسم علم مؤنث سامي مشترك؛ ويفسّر أيضًا بالسيدة، بحر الآلام والأحزان، البدينة، المرّ. وورد اسمها في الأوغاريتية الكنعانية والأكديّة كذلك. ولفظ بأشكال عديدة في العالم، منها: ماري، ماريانا، مريانا، ماريّا، مروش، مروم... وتسمّى بهذا الاسم المسيحيون والمسلمون. ومريم العذراء خُطِبت ليوسف النجار، عندما بشرها الملاك جبرائيل بحملها بيسوع وظلت بقربه حتى الصلب. وكانت بتولاً قبل الميلاد وفيه وبعده.
(3)يتواجد في لبنان أكثر من 500 كنيسة ومزار على اسم السيدة العذراء.
(4)يعتبر انتقال العذراء مريم بالنفس والجسد إلى السماء من أهم العقائد المريمية بين الطوائف المسيحية وإن بأشكال مختلفة. أصول هذا الاعتقاد يعود للقرون الأولى بعد المسيح ويظهر في كتابات آباء الكنيسة، والأساس الكتابي الغالب لها هو نشيد الأناشيد 10:2. ويخصص 15 آب لهذه المناسبة، وفي الكنيسة الكاثوليكية أعلن البابا بيوس الثاني عشر عقيدة انتقال العذراء في 1 تشرين الثاني 1950، بعد دراسة لاهوتية استمرت أربع سنوات. وتحتل العذراء المكانة الكبيرة في تراثنا الروحي وفي عاداتنا وتقاليدنا ، في حياة أبائنا وأجدادنا ، فهي ابنة الآب السماوي، ووالدة الابن الاله، وعروس الروح القدس، وهي أرزة لبنان الصامدة الدائمة. ولمريم العذراء أيضًا مكانة خاصة في الإسلام وعند المسلمين، فهي خير نساء العالمين، وترتبط بها السورة الثالثة في القرآن: سورة آل عمران، وهي عائلتها وفق المعتقدات الإسلامية؛ والسورة التاسعة عشر في القرآن باسمها، سورة مريم، وهي الوحيدة المسماة باسم امرأة. ومن مكانتها في الإسلام أن اسمها ذُكر 34 مرة في القرآن دون غيرها من النساء بأسمائهن الصريحة، تعظيمًا لها.
(5)الآلهة عنات هي آلهة كنعانيّة وترمز الى الحب والخصب والينبوع في أوغاريت وذكرتها النصوص المكتشفة بصيغة الجمع المؤنث "نات" ومعناها "ينابيع مياه" او "عيون المياه" وباعتبارها النبع فهي تمتص جوهر الاله "بعل" أي مياه المطر. وتشير بعض النصوص الأخرى الى دورها الاخصابي فاسم الآلهة "عنات" يعني أيضًا الأراضي المحروثة وقد قال عنها شارل فيرولّو مترجم نصوص "أوغاريت" بأنها صاحبة رسالة عالمية ووصفت بأنها أكثر أخوات بعل نعومة وتلقّب بالبتول أو العذراء بالأوغاريتية، والبتوليّة من أهم خصائصها المعروفة.