كان واضحاً أنّ العدوان على سورية قام على رئيسيتين اثنتين، الأولى من خلال أداة ميدانية تمثلت في مجموعات مسلحة جاءت تحت مسمّيات عدة، حاكت غرائز الناس وجزءاً من ثقافتهم التاريخية، أما الثانية فقد كانت أداة سياسية ساهمت فيها كلّ أطراف العدوان، حيث كان مطلوباً وجود «طبقة سياسية» تعطي مشروعية العدوان، بالتالي مشروعية الأداة الميدانية، كون أنّ هناك تجاوزاً على مواثيق دولية وإنسانية من خلال العدوان ذاته، الأمر الذي حتّم وفرض على مشهد وطبيعة العدوان أن تتشكل هذه «الطبقة السياسية» كي تتبنى الحاصل على الأرض، وتعطيه مشروعية حركته.
بالتالي فقد جاءت استراتيجية صدّ العدوان على هزيمة هاتين الأداتين، من خلال صمود الدولة السورية وهذا أولاً، ثم العمل على تظهير حقيقة «الأداة» التي قامت بالعدوان المباشر على مؤسسات الدولة، خصوصاً أنّ هناك من يدّعي أنّها «أداة نظيفة» لجملة من العناوين التي كانت تحاول أطراف العدوان تسويقها والتلطّي خلفها!
صمود الدولة السورية والإنجاز الهائل للقوات المسلحة السورية مع المقاومة اللبنانية البطلة حالتا دون إسقاط الدولة ومؤسساتها، في ظلّ خراب هائل وتضحيات جسام، لكنّ فترة الاشتباك الحاصل والمساحة الزمنية التي حكمت عمر المواجهة كانت كفيلة في تظهير حقيقة الأداة التي دُفعت كي تسيطر على مؤسسات الدولة، حيث تمّ تظهير حقيقة هذه المجموعات والتي تقوم على رئيسية السطو والنهب والقتل والذبح والتشريد والتنكيل والعدوان على «الأقليات المجتمعية» المختلفة معها دينيّاً وطائفياً، حتى أولئك الذين يختلفون معها في الرأي، وهو ما قدّم للعالم حقيقة هذه الأداة وأسقط عنها قناع الثورة والتغيير السلمي وكلّ تلك الملحقات التي كانت تؤكّدها وسائل إعلام معينة.
كانت هذه رئيسية لجهة ما أطلق عليه «حاضنة الثورة» على مستوى الداخل السوري، غير أنّ ذلك لم يكن حاسماً لجهة قرار سياسي دولي يمكن له أن يذهب في التأكيد على أنّ هذه الأداة إنما هي أداة إرهابية، فقد بقيت أطراف العدوان بالمكابرة حتى امتدّت هذه الأداة وانتقلت عدواها إلى مواقع خاصة بمصالح بعض هذه الأطراف، إقليميّاً ودوليّاً، الأمر الذي جعلها، خصوصاً الولايات المتحدة، تقرّ بحقيقة مفادها أنّ إرهاباً يمارس على مستوى المنطقة، وشيئاً فشيئاً أنّ هناك إرهاباً يمارس داخل سورية، لكنّها بقيت تصرّ على أنّ هناك قوى «معارضة مسلحة» تقف في وجه ما أسمته «النظام» وفي وجه الإرهاب، وهي خطوة هامة جداً لجهة أنّ الإدارة الأميركية لم يعد بمقدورها إخفاء حقيقة ما يحصل في سورية.
هذا إنجاز هامّ في المعنى السياسي، جاءت به تضحيات السوريين وأبناء المنطقة، وبسالة القوات المسلحة السورية، إضافة إلى القوى الشريفة التي كانت تقف حاجز صدّ منيع في وجه هذه المجموعات المسلحة، لكنّ ذلك أيضاً لم يكن كافيّاً في ظلّ مشهد لم يحسم لجهة فوضى السلاح والقتل والتنكيل التي تمارسها هذه المجموعات وعلى رأسها «داعش»، فقد كان مطلوباً انتزاع تراجع كامل وتخلّ كليّ من قبل أطراف العدوان عن هذه المجموعات جميعها، وهي لحظة قادمة تحتاج لمزيد من العمل الاستخباراتي الذي يساهم أكثر فأكثر في فرز وتحديد أهداف هذه المجموعات، كما أنّه يعمل على توضيح الأهداف الحقيقية لها، ونعتقد أنّ الزمن كفيل جدّاً بتأكيد ذلك.
إذن… تمّ اختراق الأداة الأولى وفضحها، بالتالي إسقاطها باعتبارها أنّها أداة عدوان إرهابي، وهذا ما كان واضحاً خصوصاً من خلال الضياع والضعف الأميركيين في البحث عن عناصر تؤكّد مشروع «المعارضة»، حيث باشرت الإدارة الأميركية بالإشراف على تدريب عناصر لمواجهة «داعش»، لكنّها عادت واعترفت بفشلها في ذلك، وهي نظريّاً ما زالت تؤكد أنّ هناك «معارضة مسلحة معتدلة» تقف في وجه «النظام» والإرهاب، وهي مقولة افتراضية لن تتنازل عنها الإدارة الأميركية وحلفاؤها وأدواتها في العدوان على سورية حتى إتمام هزيمتها فيها.
إنّ التخلّي عن هذه المجموعات الرئيسية واعتبارها أنّها مجموعات فُضحت بشكل أو بآخر، كان لا بدّ من التعامل مع الأداة الأخرى، وهي الأداة السياسية بمنطق آخر، طالما أنّ وظيفتها قد سقطت بسقوط الأداة الأولى، ساهمت في إنتاج مرحلة جديدة من مراحل العدوان أو المواجهة، الأمر الذي دفع بالروسي والإيراني إلى التقدّم كي يقوما بدور جديد، وهو استدراج هذه «المجموعات السياسية» التي ساهمت في تشكيلها أطراف العدوان ذاتها، وأضحى مطلوباً استيعابها من قبل الروسي والإيراني، ثم اختبارها موضوعيّاً لجهة عناوين ذات صلة بالمعركة مع الإرهاب، ثم بعمليات سياسية تكون كافية في تحديد أوزانها السياسية، وهو فعل سوف يبدأ بما بدأ عليه لقاء موسكو مع بعض هذه «المجموعات».
هذه الخطوة لم تكن معزولة أو مختلفة عن خطوة تحصل من قبل الروسي والإيراني مع حكومات إقليمية، ونعني بها بالضبط أنظمة الخليج، التي سيكون مطلوباً استيعابها مبدئياً أيضاً، ثم استعمالها في مراحل مقبلة، كي تظلّ بعيدة عن احتمال استعمالها من قبل قوى أخرى، خصوصاً أنّ الأوروبي الآن أضحى مشغولاً بإنجاز يعتبره هاماً جدّاً لجهة عنوان اقتصادي ومالي مفتوح له باتجاه السوق الإيرانية، لأنّ الأميركي أصبح في مكان مختلف تماماً، يبحث فيه عن مصالحه بلغة أخرى جديدة، تلائم وتناسب تطورات المشهد وإخفاقاته في إعادة إنتاج خريطة المنطقة وحيداً.
نعتقد أنّ الحلفاء «إيران وروسيا وسورية» استطاعوا السيطرة على رؤوس هامة في المعركة التي خاضوها في مواجهة الأميركي، وأنهم الآن يبحثون عن سيناريوات للخروج من عنق الزجاجة الذي أضحى الخروج منها محتوماً، لكنّهم أيضاً بحاجة ماسّة إلى قدرة إدارة على هذا الخروج مع استيعاب كامل لكلّ مكونات المنطقة، لأنهم يتطلعون إلى كلّ هذه المكونات على أنّها مكونات استعملت في العدوان على المنطقة، كما أنّها استعملت في العدوان والتآمر على وجودها هي ذاتها!
سيكون فضاء المرحلة مليئاً بدخان إعلامي سياسي لا يقدّم ولا يؤخّر، وقدرة على الاستيعاب الفذّ من قبل الإيراني والروسي، حتى توضع كامل مسائل المنطقة فوق النار الإيرانية الروسية، باعتبار أنها نار هادئة لكنّها قادرة على الإنجاز، ولو بعد حين.