في ظلّ غرق شوارع لبنان وبالأخصّ شوارع بيروت وضواحيها بالنفايات، وعلى وقع الخلاف الحاصل بين المسؤولين المنتفعين من ملف "الزبالة"، وهو خلاف على الحصص بعد انتهاء عقد شركة سوكلين، يدفع المواطن اللبناني الثمن والذي بات يتنقل راهنا بين أكوام مكدسة من النفايات على الطرقات وبين البيوت من صحته وفي بيئته، فيما الجمعيات البيئية والمجتمع المدني يتخبطان بين سندان مافيا السلطة وضغط الأهالي المطالبين بإزالة أطنان النفايات المكدسة في الطرقات وبين منازلهم بأي ثمن، وحتى لو اقتضى الأمر التخلص من هذه النفايات غير المعالجة في مكبات عشوائية كما يحصل في أكثر من منطقة، ما سيشكل كارثة بيئية تقضي على ما تبقى من مساحات خضراء في لبنان.
إنّ ما يحصل في بعبدا يشكّل نموذجا لما يحصل أو يمكن أن يحصل في كل المناطق، وهو يدخل في سياق شد حبال بين السلطات الرسمية والمجتمع المدني الذي فقد الثقة بدولته نتيجة هذا الملف، وبات لا يصدق الوعود، حتى تلك الصادرة من الجمعيات البيئية المتخصصة، فيما تستغل السلطة السياسية مشكلة النفايات للضغط على الشعب اللبناني ليقبل بمشاريع الخصخصة التي تسعى السلطات الرسمية الى اتباعها في معظم الملفات الحياتية وعلى رأسها ملف النفايات، في مقابل محاولة الجمعيات البيئية إعادة الصلاحية الى البلديات، لتمارس دورها في معالجة نفاياتها في نطاقها الجغرافي، وتسعى هذه الجمعيات الى تحقيق رؤيتها وفق الحلول البيئية المتبعة عالميا.
الضرورات تبيح المحظورات؟!
وفي تفاصيل تفجر مشكلة النفايات في بعبدا، تداعى عشرات الناشطين البيئيين وعدد كبير من أهالي بعبدا الى التجمع أمام محمية غابة الرهبان بعدما علموا ان محافظ جبل لبنان فؤاد فليفل الذي يقوم مقام رئيس بلدية بعبدا المنحلّة، ينوي استخدام قطعة أرض تابعة للرهبانية الأنطونية في غابة الرهبان وتبلغ مساحتها 4000 متر مربع، لجمع نفايات بعبدا، فاعتصموا أمام مدخل الغابة تحت عنوان رفض تحويلها الى مكب للنفايات.
أمّا المحافظ المذكور وبحسب مصادر مقربة منه فله رأي آخر، وقد كشف المصدر لـ"النشرة" أن الجمعيات والأهالي اعترضوا على أربعة أماكن أخرى كان يمكن إجراء الطمر فيها، مشيراً إلى أنَّ فليفل حريص جدا على البيئة ولا يمكن له أن يتخذ أي قرار يضر بالسكان، ولكن الضرورات اقتضت ان يصار الى تجميع النفايات بشكل مؤقت في تلك الأماكن المختارة، على أن تنقل لاحقا الى أماكن أخرى حين إيجاد الحلول، وليس طمرها، معتبرا ان البلديات لا تتحمل المسؤولية عن هذا الملف وهي وضعت في اللحظة الأخيرة تحت الأمر الواقع، داعيا الى التعاون بين جميع المعنيين لحل هذه المعضلة.
تعهّد بالفرز والتدوير
أمّا الخلفية من وراء إختيار قطعة الأرض في غابة الرهبان بالتحديد، فقد شرحها لـ"النشرة" الراهب الأنطوني المدبر ورئيس دير مار أنطونيوس الكبير الحدت-بعبدا الأب جورج صدقة، موضحاً أنّ الطلب جاء من المحافظ لصعوبة إيجاد مكان آخر لتجميع النفايات في المنطقة، مؤكدا أنه لم يوافق على الأمر إلاّ بعدما تعهدت شركة Arc en Ciel التي كلفها المحافظ برفع النفايات، أن تعالجها بالدرجة الأولى من خلال فرزها وتدويرها لا طمرها كما يسوّق البعض، ومن ثمّ تعهدت الشركة بحسب الأب صدقة بإزالتها بعد فترة شهرين فقط، وقد فرضت الرهبانية بندا جزائيًّا على الشركة في حال أخلّت بتعهداتها هذه، على أن تعالج قطعة الأرض بشكل بيئي بعد إزالة النفايات.
وشدّد الأب صدقة على ان لا أحد يقبل بتحويل أرضه الى مكبّ، "ولكن الرهبانية الأنطونية قدمت الأرض مجانا رغبة منها بحل المشكلة المتفاقمة في بعبدا نظرا لوجود كميات كبيرة من النفايات على الطرقات، وإحساسا منها بوجع الأهالي ومصالحهم التي تتقدم على ما عداها من إعتبارات، بالنسبة للرهبانية".
تراجع عن اتفاقه!
في المقابل، تساءل رئيس جمعية Terre Liban الناشط بول أبي راشد عبر "النشرة"، عن سبب تراجع المحافظ فؤاد فليفل عن اتفاقه مع الجمعية على تخصيص قطعة أرض بعيدة عن غابة الرهبان في منطقة تسمى "مقابر بعبدا"، لفرز النفايات والتي حصلت فيها الجمعية على موافقة المحافظ بتاريخ 25-7-2015، وهي أرض مصنفة أملاكا عامة وملاصقة لمدافن بعبدا وبعيدة عن أماكن السكن، وقد تم توكيل السيد بيار كساب بحسب ما ذكر أبي راشد من قبل المحافظ لمتابعة الموضوع، ليتفاجأ بعدها الأهالي بتوجّه شاحنات القُمامة لرمي النفايات في هذه القطعة بالذات، لتتحول من مكان للفرز الى مكبّ ورمي الأتربة، وذلك بعكس المتفق عليه مع فليفل.
ولفت أبي راشد إلى أنّ هذا الأمر دفع الناشطين البيئيين والأهالي الى اقفال الطريق ومنع سوكلين من إفراغ حمولتها في منطقة مقابر بعبدا، مع الإشارة الى أنّه حصل على تواقيع الفعاليات والجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية في بعبدا على الحل البيئي المقدم الى المحافظ من قبله.
أمّا بالعودة الى قضية غابة الرهبان فلفت أبي راشد الى أن العقد الموقع بين الرهبانيّة الأنطونيّة وجمعية "الأرض لبنان" (Terre Liban) والذي ينتهي في العام 2017، هو كناية عن عقد لإدارة الغابة والاهتمام بها والمحافظة عليها.
الحلول متعدّدة...
في المحصلة قضية النفايات في بعبدا تتجّه الى مزيد من التصعيد، وبات من الملح إيجاد مخرج لها، وهو موجود ويوفر أموالا طائلة على الخزينة لا بل يؤمن مدخولا للبلديات إذ أنها المسؤولة أولا وأخيرا عن قضية النفايات كما كان الأمر عليه قبل الخصخصة في أوائل التسعينات، أمّا الحلول البيئية فمتعددة وتقوم ركائزها على التخفيف من نسبة الطمر. فثمة طريقة فعالة لادارة النفايات الصلبة تبدأ بفرزها من المصدر أي في المنزل قبل جمعها. فيتم فصل المواد العضوية والورق والكرتون والبلاستيك والزجاج والأقمشة والنفايات الخطرة غير الصناعية الآتية من المنازل والشركات التجارية، مما يضمن تسهيل عمليّة تنقية المواد المعاد تدويرها ويحسن فرص إعادة استخدامها. أما الحرق والطمر العشوائي، وهي الطرق المتبعة حتى الآن في لبنان والتي توقفت الدول المتطورة عن استعمالها، فتبين أنها لا تفضي الى نتيجة وافية في مع وجود النفايات الصلبة في حين تعتبر النفايات مورداً يمكن استخدامه وليس مادة ينبغي حرقها أو طمرها.
غير ان الحل المستدام في النهاية وبخاصة للمدن الساحلية التي لا تتوفر فيها أراض خالية لاستخدامها في إعادة التدوير، فيبقى في يد الدولة التي يجب ان تضع إستراتيجية وطنية لملف النفايات تخرج منها بجدوى إقتصادية وتحافظ فيها على البيئة في الوقت نفسه.