لا يحتاج المواطن الى شرح لكي يبصق بوجه المسؤولين عن الازمة الوطنية الكبرى. ولا يحتاج المسؤولون عن هذه الازمة، إلى من يشرح لهم، سبب، كره الناس لهم. اما لماذا يعود الجمهور ليلتف في نهاية المطاف حول زعامات طائفية او مناطقية، فهذا بلاء، ليس متوقعا لنا الشفاء منه في القريب.

يحلو للاعلاميين ان يطلقوا اسم «الاكثرية الصامتة» على ناس يعتبرون انفسهم خارج الانقسامات السياسية القائمة. هذا كلام غير صحيح على الاطلاق. فلا هم بأكثرية، ولا هم بصامتين. هم جزء من الانقسام.

يوجد بينهم، حكما، من لا يجد نفسه ممثلا في كل القوى الموجودة في الحكم او البلاد اليوم. لكن الامر لن يستوي، اذا كان هناك من يعطي نفسه، حق وضع شروط او مواصفات على من يريد المشاركة في انتفاضة وطنية. وليس ممكنا، ان تلزم المواطنين، المتضررين، ان ينزعوا قناعات وحساسيات، كأنهم قلادة، لتودع في صندوق امانات قبل النزول الى الشارع.

ما يجب حسمه بداية، لكل من هو معني باخراج البلاد من حكم المافيا، ان الجمهور في لبنان، ملون سياسيا وطائفيا ومذهبيا وطبقيا وثقافيا ومناطقيا، لكن، حقيقة الامر، ان القاسم المشترك بين الجميع، هو عناصر الازمة مشتركة، اذ لا تسأل النفايات عن اسم او هوية او انتماء، كما لا يسأل اللص عن هوية المسلوب، ولا يفعل ذلك اصحاب المافيات المستمرة في نهش هذا الجسد. ولذلك، فان المشترك هو الذي يفترض ان يمثّل قاعدة للتحرك. وإزاء هذا الواقع، نكون امام حالتين:

ــ إما وضوح الحد الادنى، ما يتيح تحميل المسؤولية لمن تقع عليه المسؤولية، وفي حالة المطالب القائمة، لا يمكن التغاضي او التعميم بقصد منع الاستفزاز، او بحجة ان التعميم يمنع بروز الحساسيات. وهو الاختبار الحقيقي، لكل من يريد المضي في هذه المهمة الشاقة.

ـ وإما تسوية ضمنية، تجعل الشعارات عامة، فيخرج الناس من الشارع مع صفر نتائج، وذكريات نضالية. وسرعان ما نرى ناشطين على شاشات التلفاز ناطقين باسم الشعب المسكين، قبل ان نراهم مستشارين عند هذه الجهة الحكومية او غير الحكومية، المدنية او غير المدنية.

عنوان المعركة، لا يحتاج الى دليل. وهدف اي تحرك لا يحتاج الى دليل ايضا. الواضح، ان لبنان لن يستقيم الا باقتلاع حقبة الحكم، التي انتجتها شراكة اميركية ــ سعودية ــ سورية، وهي التي تولت ادارة البلاد منذ عام 1991، ولا تزال.

غشاش، او ضعيف، او ربما اكثر، من يريد ضم قوى سياسية لمجرد انها متمثلة في الحكومة. ولا يمكن مطلقا، وتحت اي اعتبار، جعل التيار الوطني الحر او القوات اللبنانية او حزب الله، يتحملون مسؤولية توازي مسؤولية «الحقبة الحريرية» التي يتشارك فيها تيار المستقبل وحركة امل وحزب وليد جنبلاط وحزب الكتائب وشخصيات 14 آذار المسيحية على وجه الخصوص.

ولان الوضوح سيكون مؤذياً لعيون كثيرين هذه الايام، فان تولي قيادة من هذا النوع، يحتاج ليس الى جراة او شجاعة، بل يحتاج الى رؤية، تعرف تمييز الوقائع والمعطيات، وتعرف التمييز بين الرغبة والقدرة على التغيير. وهي رؤية تتيح التدقيق في ما يمكن ان يقوم به اي فريق يتولى المسؤولية، إذا استقال كل من هو في الحكم اليوم. وتحتاج الى من يجيد تحويل القوى الامنية والعسكرية الى حليف، او الى محايد ايجابي. وغير ذلك، سنكون امام تجربة مثيرة، لكن فشلها، سوف يؤثر سلبا في ما يمكن القيام به في لحظة نضج جدية.

ها نحن امام مشهد واضح وجلي:

ــ كتل بشرية منضوية في اطر سياسية وعقائدية ومذهبية وطائفية ومناطقية، تعيش حالة غليان بسبب الازمات المعيشية القاسية، الناجمة عن فشل واجرام من يمثل هذه الكتل في الحكم.

ــ قوى سياسية تمسك بمفاصل في الدولة، باتت في موقع ضعيف، تعرف انها بلا شرعية، وان ما لديها من جمهور، لا يكفي لمنحها شرعية وطنية، لكنها قوى، سوف تقاتل بشراسة للدفاع عن مصالحها القائمة على دماء الناس وصحتهم واكلهم وشربهم وتعليمهم وهوائهم.

ــ حالة انهيار اقتصادي وسياسي، تجعل الحديث عن بديل جذري، اشبه بمغامرة مجنونة. وبصراحة قاسية، فان لبنان، اليوم، غير قادر، على انتاج حالة، حتى كما قد فعل اهل اليونان، قبل ان يصطدموا مجددا بالجدار.

ليس امامنا سوى القول بأن من هم في السلطة اليوم، لا يعكسون تمثيلا حقيقيا لمزاج الجمهور. وان الحل، يكون في اعلان حالة طوارئ دستورية وسياسية، هدفها، الإعداد لانتخابات نيابية عامة، تجرى على اساس قانون النسبية الضامن لتمثيل الجميع، وان يجري تكليف هيئة ــ يمكن اختيار عناصرها السياسية والتشريعية والقضائية والامنية ــ لتولي الإشراف على هذه العملية. وبعد ذلك، نكون حكما، امام مشروع اعادة تكوين السلطة الناظمة لحياتنا بطريقة افضل، فيكون لدينا الرئيس الاقرب الى عقول الناس ومصالحهم، وتكون عندنا الحكومة القادرة على وضع برنامج عمل واقعي ومنطقي.

ليس من شعار منطقي ومقبول اليوم سوى: افسحوا المجال امام الناس، ليخوضوا انتخابات نيابية وفق النظام النسبي، الآن... الآن!