فجأةً اشتعلت الساحات وتطايرَت الرسائل في كلّ الاتجاهات، وبدا أنّ الساحة اللبنانية كانت تَرقد على تناقضات لا بدّ لها أن تنفجر يوماً ما، فكان السبت المشتعِل من عين الحلوة إلى وسط بيروت.
كان من المنطقي التكهّن مسبقاً أنّ أزمة «النفايات» ستنفجر غضَباً في الشارع. أضِف إلى ذلك رائحة الفضائح والصفقات والسمسرات التي غطّت على روائح النفايات «المقرفة». صحيحٌ أنّ العصَب الأساسي للتحرك الشعبي تكوَّنَ مِن محازبين يساريّين إلّا أنّ التعاطف الشعبي وانضمام المواطنين جاءَ عفوياً بمعظمه. لكنّ الرسائل التي جرى تمريرها من خلال التحرّك كانت عديدة.
وليد جنبلاط كان واضحاً في إبداء دعمه للتظاهرة بدايةً قبل أن يطلب من مناصريه الانسحاب، وقد فسَّر المراقبون موقفَ جنبلاط، وهو المعني بملف التلزيمات منذ «سوكلين» ومطمر الناعمة الذي أدّى إقفاله إلى انفجار الأزمة في وقتٍ كان قادراً على الاستمرار لبعض الوقت، بأنّه استباقٌ لقرار التلزيمات المؤجّل بلا سبَب مقنِع.
وكان لافتاً تواجُد أحد أصحاب الشركات التي تقدّمت إلى المناقصات والمعروف بعلاقته القوية مع جنبلاط في
صفوف المعتصمين. وعندما وجَد جنبلاط أنّ الاعتصام ذهبَ باتّجاه عناوين سياسية كبيرة حاوَل الانسحاب منه، ولكن بعد فوات الأوان.
الرسالة الثانية كانت من خلال تعاطف الرافضين للسياسة المشبوهة التي تواكب ملف التلزيمات. أحد الوزراء المحسوبين على فريق الرئيس تمام سلام السياسي والمعروف بحماسته لخيار «شحن» النفايات الى الخارج وتصديرها، بدا مصدوماً للحرب التي شنّها البعض على هذا الخيار بلا مبرّر مقنِع، وهو ما دفعَ به للابتعاد عن الملف متمتماً «لا أستطيع أن أواجه غول الصفقات لوَحدي».
الرسالة الثالثة كانت سياسية مع تعاطف القوى المتخاصمة مع سلام، وبدا فريق «التيار الوطني الحر» ومعه حزب الله مسروراً لمحاصرة سلام قبل الجلسة المقبلة وإنهاكه. رئيس الحكومة قالها بوضوح، إنّه يريد من جلسة مجلس الوزراء المقبلة ان تكون جلسة منازَلة نهائية، وفي المقابل فإنّ العماد عون الذي يستعدّ لموقف قوي غداً الثلثاء سيَرفض الحلّ المقترح لإدارة الجلسات.
وحزب الله الذي أعلنَ أنّ عون ممرّ إلزامي لرئاسة الجمهورية يرفض الرضوخَ لمبدأ اتّخاذ القرارات وفق أغلبية 18 وزيراً، وهو ما يفتح احتمالات مجهولة باتّجاهه مستقبلاً، ما يَعني أنّ معارضته ستكون عنيفة أيضاً. أضِف إلى ذلك مأخذَ البعض على سياسة سلام أنّه أدخلَ مجلس الوزراء في نفق سيؤدي إلى زوال الحكومة، مع ما يهدف إليه حزب الله للوصول إلى المؤتمر التأسيسي ولكن مِن خلال سياسة «ساذجة» اعتمدَتها الحكومة منذ بداية الصيف.
في المقابل رسالة معاكسة من الحكومة من خلال دفع القوى الأمنية للتعامل بقسوة والرصاص الحيّ مع المتظاهرين. والهدف استباق أيّ تحرّك جديد للتيار الوطني الحر قد يكون مدعوماً هذه المرّة من حزب الله.
لكنّ القسوة أتَت بنتائج عكسية، وبدا أنّه سيكون صعباً التعاطي بالقوّة مع تحرّكات الشارع، ما يَعني أنّ المتظاهرين سيكونون أكثرَ اطمئناناً مستقبَلاً. وقيل إنّ الرئيس نبيه بري الذي كان أقرب إلى سلام خلال التظاهرة باشَر بتحرّكه لإيجاد مخرج وسط حول جلسة الخميس المقبل، لكنّ الأمور لا تبشّر بالخير.
وفي الجنوب كانت الرسالة الأمنية الأخطر، فالإسلاميّون فجّروا الأوضاع في مخيّم عين الحلوة، تماماً كما كانت تتخوّف الأوساط الأمنية والرسمية اللبنانية.
فالاشتباكات أظهرَت وقائعَ ميدانية جديدة لا تبعَث على الارتياح، ذلك أنّ تبادلَ إطلاق النار شملَ جميعَ أحياء المخيّم، ما يعني أنّ الإسلاميين باتوا قوّة كبيرة، والأهم منتشرة في كافّة أنحاء المخيّم، وهنا مكمن الخطورة.
والمعروف أنّ حركتي «حماس» و«عصبة الأنصار» وقفتا خارج هذا الصراع، وهما وعلى رغم عدائهما لحركة «فتح» إلّا أنّهما تعارضان تنامي قوّة التيارات الإسلامية، أوّلاً لأنّها تستند الى خلفية دينية تلتقي مع «داعش» و«النصرة» و«القاعدة»، وثانياً لأنّ هذه التيارات «تأكل» مِن صحن «حماس» والعصبة في المخيّم، وثالثاً والأهم هي حادثة مخيّم اليرموك التي لا تزال ماثلةً أمام «حماس» حين قطعَ تنظيم «داعش» رؤوسَ 40 حمساوياً وعلّقَها على الرماح عند مدخل المخيّم.
لكنّ وقوفَ «حماس» جانباً أعطى صورةً مرعبة للقوّة التي بات يتمتع بها الإسلاميون الساعون للسيطرة على المخيّم والتمدّد باتّجاه صيدا والاشتباك مع المناطق الشيعية. وتملك الأجهزة الامنية معلومات دقيقة عن حركة تسَلّح وبيع ذخائر داخل المخيم لصالح الإسلاميين.
ومن رسائل اشتباكات عين الحلوة أنّ القذائف الصاروخية طاولت مستديرة الأميركان وكذلك حاجز الجيش والأوتوستراد الشرقي، ما يعزّز الانطباع حول طموح الإسلاميين بالانتقال الى هذه الاهداف فور السيطرة على كامل المخيم. لكنّ الإشارة الإيجابية الوحيدة هي أنّ هذه التيارات الإسلامية فشلَت في هجومها على مواقع «فتح» رغمَ توزيعها معلومات تعلن عكسَ ذلك. وبدت «فتح» متماسكةً عسكرياً، لكنّ: إلى متى؟
باختصار، رسائل كبيرة في عين الحلوة ووسط بيروت، ما يؤشّر إلى الدخول عملياً في مرحلة انعدام الوزن: نار تهَدّد عاصمة الجنوب، وأزمة سياسية تهدّد الحكومة المشلولة أساساً. فهل هذا يعني بدءَ الاضطرابات التي تسبق الحلولَ عادةً، أم الدخولَ في مرحلة انعدام الوزن تمهيداً لانهيار المؤسسات والوصول إلى مؤتمر تأسيسي لاحقاً، يقوم على أنقاض ما تبَقّى من الدولة.
حزب الله أبلغَ حلفاءَه، ولا سيّما الموارنة منهم أن لا حلول مطروحة بعد الاتفاق النووي، بخِلاف الجوّ السياسي السائد، وأن لا تسوية رئاسية من خلال رئيس وسَطي يكرّر تجربة ميشال سليمان. ألَا يشكّل ذلك امتداداً سياسياً لتحرّكات وسط بيروت واشتباكات عين الحلوة؟