عندما تُسَدّ الأبواب في لبنان، تُرصَد حركة رئيس المجلس النيابي نبيه بري. دائماً يبتكر المخارج لفرض الحلول أو على الأقلّ لتجميد الأزمات منعًا لتفاقمها. صار الحوار الداخلي يُقرن به في تقريب المسافات السياسية. نجح عام 2006 في جمع القوى على طاولة المجلس النيابي. بعد انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، سلّمه بري راية الحوار، فنقل سليمان الطاولة الى بعبدا، لكنه فشل في المحافظة على روحيته، فتفككت طاولة القصر الجمهوري. يومها قيل همساً ان سليمان يفتقد الى حكمة وخبرة وقدرة بري.
بعدما امتدّ الشغور الرئاسي وتوسعت مساحة الأزمات راودت بري افكاراً عدة على قاعدة البحث عن مخارج. جاءه منذ أسابيع رئيس "حزب الكتائب" النائب سامي الجميل يحثه على اطلاق مبادرة ما. بعده ناشد وزير الداخلية نهاد المشنوق رئيس المجلس النيابي ايجاد حل سياسي داخلي. في هذا الوقت كانت المطالبات تزداد حول وجوب تحرك بري. كان رئيس المجلس يدوّر زوايا طروحات صاغها في مبادرة قرر إطلاقها في ذكرى تغييب الامام السيد موسى الصدر ورفيقيه في النبطية، ومهّد لها بجس نبض الأطراف عبر معاونه الوزير علي حسن خليل، فجاءت الأجوبة إيجابية. للجميع مصلحة في الحوار الآن.
لم يكن بري ليطلق المبادرة لولا التأزم الداخلي الحاصل، وتمنيات عدد من القوى السياسية عليه ابتكار الحلول. في الأشهر الماضية كان رئيس المجلس يردد اننا أضعنا فرصة الاعتماد على انفسنا وصرنا ننتظر الخارج. هنا يقصد بري تحديدا موضوع انتخاب رئيس للجمهورية. هو استند في حكمه على التموضعات والفيتوات المفروضة في كل اتجاه.
قرر رئيس المجلس النيابي التحرك بعد رصد البلد ينزلق بسرعة الى الهاوية. لا خيار بديل عن محاولات الجمع وتدوير الزوايا الداخلية في عز الانشغالات الإقليمية والعربية. لا يوجد في لبنان مسؤول آخر قادر على لعب هذا الدور. يُعتبر بري جسراً يربط بين القوى. يحظى بإحترام كل الكتل السياسية. يمتلك خبرة مهمة في إدارة النقاشات والحوارات وتنظيم الخلافات. لم يقطع علاقاته مع اي عاصمة معنية بالشأن اللبناني. يرأس حركة سياسية تؤمن بمبدأ الحوار والوحدة الوطنية وتنبذ العزل. لم يهاجم أحدًا ولم تتأزم علاقاته مع اي حزب. قادر على التكيف مع الطروحات.
اهمية مبادرة بري انها طُرحت في مهرجان حاشد اقامته "حركة امل" في النبطية.
في الشكل كانت الرسائل واضحة بعد غياب سنتين عن احياء المناسبة بسبب الأوضاع الامنية. اظهر جمهور "حركة أمل" مجدّدًا انه وفيّ لقيادته، عمليًا شكّل حضوره الكثيف ردا على استهداف ممنهج للحركة ورئيسها، فشكل سداً منيعا في وجه كل الهجمات التي تطال رئيس المجلس. هذا الجمهور أحبط عملياً محاولات جرت مؤخراً لاستهداف بري معنويا.
"زحف بشري" الى النبطية شكل اكبر تجمع لحركة "امل" في تاريخها. كان الحضور يوحي بالرد على اي اتهام يطال الحركة، ردا على السهام التي تطلق على بري تحديدا. المهم أيضاً جوهر ما طرحه رئيس المجلس. يمكن توصيف مبادرته بخارطة طريق، رغم ان بري وصفها بالمتواضعة. بنود المبادرة متعلقة اساسا بسبعة نقاط: البحث في رئاسة الجمهورية، عمل مجلس النواب، عمل مجلس الوزراء، ماهية قانون الإنتخابات، ماهية قانون استعادة الجنسية، مشروع اللامركزية الإدارية، وموضوع دعم الجيش اللبناني.
الأهم ايضا ما قاله بري عن المطالب المحقة. الحل بإلغاء الطائفية والدولة المدنية. فعلا لقد جرب اللبنانيون كل انواع العلاجات. كانت مجرد مسكّنات. وحدها وصفة الدولة المدنية بكل تفرعاتها انطلاقا من أولوية الانسان، قادرة على ايجاد حل ابدي.
فلا قيمة للتحركات الشعبية عملياً من دون خارطة طريق. تبدو الخارطة واضحة في طرح بري مسنودا الى جماهير غفيرة حضرت الى النبطية.
قال بري كلمته بعدما سبقته رسالة الحشد الى كل من يعنيه الامر. وأمام الوقائع اللبنانية والخارجية لا قدرة داخلية على رفض المبادرة الإنقاذية. في جوهرها بصيص امل بأن هناك امكانية لإيجاد مخارج للازمات. فالامر ضروري لإعادة التشريع على الاقل وبت ملفات أساسية كبند سلسلة الرتب والرواتب المطلبي.
لم يعد بالإمكان تجاهل المطالب. صارت أولوية. وهي تتجسد الآن ببندين، عمل مجلس الوزراء ومجلس النواب، لاقرار المشاريع والقوانين وتنفيذها. اما قانون الانتخابات فهو مدخل الاصلاح.
فهل يشكل "المجتمع المدني" عنصر دعم ومراقبة للإصلاحات والحلول المطروحة ضمن المبادرة؟ ام يدفع باتجاه خطوات لا تؤدي في مجتمعنا المعقّد الا الى الفوضى؟