على الرغم من كل التبدلات المهمة التي رافقت الحراك الشعبي اللبناني في الشارع، لا يمكن إهمال التحول الكبير في موقف تيار "المستقبل" منه، خصوصاً أنه يحمل في طياته العديد من المؤشرات المهمة، في لحظة تبدو مصيرية على مستوى المنطقة، وبالتالي لا يمكن أن يكون ما حصل هو مجرد صدفة فقط.
خلال أيام قليلة، بات "المستقبل" من الداعين إلى الحوار مع الشباب، وراغباً في الإستماع إلى مطالبهم المحقة، بعد أن كان من أبرز المحذرين من حراكهم، موجهاً الإتهامات إلى "حزب الله" بالوقوف خلفه عبر "سرايا المقاومة"، بهدف السعي إلى إسقاط الحكومة الحالية، كمحطة توصل إلى المؤتمر التأسيسي، الذي يطمح إليه الحزب.
من وجهة نظر مصادر سياسية متابعة لحركة الإتصالات والمشاورات، التي رافقت هذا الحراك، هناك قطبة مخفية في هذا الموقف، إلا أن معالمها ظهرت مساء السبت الماضي، وتؤكد بأن هذا التحول لا يمكن أن يأتي من فراغ، بل يستند إلى مجموعة من العوامل التي ينبغي فهمها بشكل جيد ومتابعة كل التفاصيل التي رسمت المشهد السياسي الحالي.
وتدعو هذه المصادر، عبر "النشرة"، إلى الإنطلاق من مشهد مرافقة قوى الأمن الداخلي المتظاهرين من شارع الحمرا وصولاً إلى ساحة الشهداء، ومن ثم توجيه وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق التحية إليهم، وتلفت إلى أن هذا الأمر لا ينفصل عن دعوة رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى جلسة حوار تجمع مختلف الكتل النيابية، بعد أن سبقته مواقف لرئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع تطالب المتظاهرين بأن يكون هدفهم الضغط من أجل إنتخاب رئيس بأسرع وقت ممكن، بالتزامن مع تأكيدات وصلت من أعلى المستويات الدولية والإقليمية والمحلية بأن حكومة تمام سلام خط أحمر، ما يعني الإطمئنان إلى أن الحراك لن يقود إلى الفوضى المزعومة.
إنطلاقاً من ذلك، تشير المصادر السياسية المتابعة إلى أن "تيار المستقبل" وجد أن لا مصلحة له بالوقوف في وجه الحراك الشعبي، لا سيما أن قسماً كبيراً من جمهور قوى الرابع عشر من آذار لم يكن بعيداً عنه، بل على العكس من ذلك رأى امكانية الإستفادة منه إلى أبعد الحدود، في المعركة السياسية التي يخوضها على الصعيد الداخلي، من خلال توجيه الأنظار إلى أزمة جديدة تتطلب تنازل مختلف الأفرقاء من أجل الحفاظ على الإستقرار الداخلي، بدل حشره في زاوية التجاوب مع مطالب رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، الذي يرفع لواء الدفاع عن حقوق المسيحيين في المشاركة.
وفي حين كانت المعلومات تشير إلى حراك مقابل سيحصل في الشارع السنيّ، تحت عنوان التضامن مع رئيس الحكومة تمام سلام، إنطلاقاً من رفض تعرض المتظاهرين إلى السراي الحكومي، توضح المصادر نفسها أن الضغط أصبح على كل من "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" من أجل التراجع عن موقفهما من الإستحقاق الرئاسي، والذهاب نحو تسوية مقبولة من جميع الأفرقاء، عنوانها الرئيس التوافقي، أو رئيس مقرّب من قوى الثامن من آذار لكن ليس رئيس تكتل "التغيير والإصلاح".
في الجانب الآخر، تشدد هذه المصادر على أن قراءة التبدل في المشهد السياسي أصبحت واضحة، وترجمتها كانت من خلال مواقف قيادات في "الوطني الحر" من الحراك في البداية، ومن ثم مواقف رئيس كتلة "الوفاء المقاومة" النائب محمد رعد، فبعد أن فضل "حزب الله" عدم التعليق على ما يجري من تظاهرات في وسط بيروت، مكتفياً بالبيان الصادر عن العلاقات الإعلامية، والذي كان بشكل أساس رداً على ما حصل في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، طرح عبر رئيس كتلته النيابية جملة من التساؤلات، تؤكد أن هناك شكوكاً كبيرة حول الحراك وأهدافه ومن يقف خلفه، ما يعني عملياً تعريته من الإطار المطلبي المحض، والإشارة إلى أهداف سياسية منه لا يمكن أن يوافق عليها الحزب من دون تدقيق.
وفي الوقت الذي من المفترض به أن يعلن المجتمع المدني مواقف جديدة اليوم، على ضوء المستجدات التي حصلت في الأيام الأخيرة، تتوجه الأنظار إلى التحركات التي سيقوم بها "التيار الوطني الحر"، بعد أن كان أعلن عن مظاهرة يوم الجمعة المقبلة ومسيرات سيارة غداً، فهل يرضخ إلى الضغوط الجديدة أم أنه مستمر في مواقفه المبدئية؟
في المحصلة، ستكشف الأيام المقبلة عن الكثير من المعطيات، التي سيكون عنوانها تحريك الملف الرئاسي على وقع التحركات المطلبية في الشارع، بالتزامن مع ضغوط دولية وإقليمية تريد الإستفادة من المشهد الجديد من أجل تحسين أوراق قوتها.