"إننا نؤيد ما شهدناه في الايام المنصرمة من مظاهرات وشعارات(...) فأبناء لبنان تحرّكوا وهم على حق(...) ولقد عبّروا عن الأوجاع الحقيقية للمواطن اللبناني، التي لا يملك او لا يتجرأ حزب على الإجابة عليها ناهيك عن معظم الطبقة السياسية(...) هناك حكومة وقوى سياسية مسؤولة، وعليها تحمّل التبعات والإسراع نحو المعالجة، لأن غضب الناس سيزداد، وكلما تأخرت المعالجات سيكون هناك مطالب أكثر للناس(...)
إنّ قيام الدولة المدنية الحديثة في لبنان، هو أبسط حقوق الشباب اللبناني جميعا، بكل طموحاته وأحلامه وتياراته وأحزابه(...) بل أكثر من ذلك، فإنّ هناك ضرورة لتغيير الطبقة السياسية في لبنان وتطوير النظام السياسي فيه ومحاسبة كل المسؤولين عن الكوارث التي وقعنا فيها والتي يدفع ثمنها المواطن ومنها ملف النفايات"..
من يتظاهر ضدّ من؟!
ما سبق ليس مقتطفاً من خطابٍ محدّد لأحد ناشطي المجتمع المدني ألقاه خلال إحدى المظاهرات التي تمّ تنظيمها خلال الأيام القليلة الماضية ضدّ الطبقة السياسية الحاكمة التي يصفها بالفاسدة والمتآمرة، ولا حتى مقتطفاً من خطابٍ لأحد السياسيين المستقلّين الذين انخرطوا بشكلٍ أو بآخر في الحراك الشعبي حتى باتوا متحدّثين باسمه.
إنّه بكلّ بساطة "خليطٌ" لسلسلة مواقف صدرت خلال عطلة نهاية الأسبوع عن عيّنةٍ بسيطةٍ من رموز هذه الطبقة السياسية جميعهم من دون استثناء، من "تيار المستقبل" و"حزب الله" إلى رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون ورئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط، مرورًا برئيس"حزب الكتائب" النائب سامي الجميل.
كلّهم من دون استثناء اتفقوا على مساندة ودعم حراك المجتمع المدني، الذي انطلق من بوابة أزمة النفايات ووصل لحدّ وضع النظام اللبناني برمته على المحك. كلّهم من دون استثناء اتفقوا على أنّ الشعب المقهور والمسكين يعبّر في حراكه عن مطالب محقّة ومشروعة.
صورة ورديّة من دون شكّ، ولكنّ نظرة متعمّقة للأمور تؤكد العكس تمامًا، فكلّهم دون استثناء أيضًا اتفقوا ضمنًا على احتواء الحراك وإفراغه من مضمونه، عبر تجهيل المسؤول الحقيقي عن الأزمات المستفحلة في البلاد، فالسياسيون متضامنون مع الشعب، ويتبنّون مطالبه، ليبقى السؤال الجوهري، من يتظاهر إذاً وضدّ من؟!
احتواءٌ للحراك...
برأي كثيرين، فإنّ الطبقة السياسية بمختلف فروعها قرّرت أن تلعبها بـ"ذكاء". لم يأتِ دخولها على خط الحراك الشعبي من العدم، ولا هو بريءٌ أو عفوي كما يحاول البعض أن يُظهِره. كلّ شيء مدروسٌ بعنايةٍ وإتقان، والهدف منه احتواء الحراك أولاً وأخيرًا، باعتبار أنّ مطالب الشعب هي نفسها مطالب السياسيين، وأنّ هؤلاء يبذلون قصارى جهدهم لحلّها.
من هذه الزاوية، فقط يمكن تفسير المواقف "الأفلاطونية" التي صدرت عن مختلف الأفرقاء في الساعات الأخيرة، ولعلّ البيان الذي صدر عن "تيار المستقبل" ليل السبت دليلٌ فاقعٌ على ذلك، فالتيار الذي لا يشكّ أحد بأنّه أكثر المتمسّكين بالحكومة السلاميّة وبنظام الطائف، والذي اعتقد كثيرون أنّه سيكون الخاسر الأكبر من الحراك الشعبي الذي يستهدف في ما يستهدف وجوهاً محسوبة عليه بالدرجة الأولى، خصوصًا في ضوء الاتّهامات غير البريئة الموجّهة لـ"الحريرية السياسية" بأنّها من أغرقت لبنان في مستنقع "الفساد" بشكلٍ أو بآخر، أوحى في بيانه بالعكس، بل ذهب لحدّ وضع نفسه في خندقٍ واحد مع الشباب الثائرين، إن لم يكن مزايداً عليهم.
ومثله، فعل النائب وليد جنبلاط، الذي دعا القيّمين على الحراك للتنبّه من محاولات الأحزاب استغلال الحراك واستثماره لمصالحهم الشخصيّة، وكأنّه "يحيّد" نفسه من هذا الاتهام، رغم أنّه كان أول المستثمرين والمستغلّين بشهادة الجميع، وهو المتّهم أيضًا من كثيرين بالوقوف وراء أزمة النفايات، ولو بشكلٍ غير مباشر، وهي التي اعتُبِرت بمثابة "القشة التي قصمت ظهر البعير"، ويبدو مطمر الناعمة، الذي يُفتَح ويُقفَل بأوامر "البيك"، شاهدًا على ذلك.
مبادرة أم مسكّن؟
وفي السياق نفسه، قرأ كثيرون مبادرة رئيس المجلس النيابي نبيه بري الحواريّة التي أتت بعد فترةٍ طويلة من الجمود والسكينة، التي رفض خلالها "الأستاذ" تحريك عجلات وساطته في أيّ اتجاه، كونه لم يكن يلمس "النوايا الطيّبة" لدى باقي الأفرقاء للتجاوب مع مساعيه، علمًا أنّ الكثيرين لم يتردّدوا في المرحلة السابقة في الاستهزاء بالحوار كونه لا يغني ولا يسمن من جوع، بل هو عبارة عن "تمثيلية" لا يمكن أن تنطلي على أحد.
ولعلّ التلقّف السريع لمبادرة بري من قبل النائبين سعد الحريري ووليد جنبلاط في المقام الأول يؤكّد هذه القراءة، علمًا أنّ كلّ المعطيات تؤكّد أنّ كلّ الأفرقاء سيتعاطون بكلّ إيجابية ومرونة مع مبادرة "الأستاذ"، ومنهم رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، الذي سيكون مُحرَجًا في عدم التجاوب معها، ما يوحي بأنّها قد تكون "مسكّناً آخر" يُضاف إلى سلسلة "المسكّنات" التي لا تحلّ الأزمة وإنما تكتفي بترحيلها إلى أمدٍ غير بعيد...
حنينٌ إلى المعارضة؟
وبين هذا وذاك، يبقى قسمٌ من هذه الطبقة السياسية أيقظت تظاهرات المجتمع المدني "حنينه" إلى المعارضة في مكانٍ ما، وهو أراد الإيحاء بأنّ السلطة لم تغيّر فيه شيئاً، وأنّه يرى نفسه قبل غيره في حراك الشارع والشعارات التي تُرفَع فيه.
ولعلّ موقف "التيار الوطني الحر" ومؤسّسه العماد ميشال عون يندرج في هذه الخانة، هو الذي لم ينكر رغبته في الدرجة الأولى في الانضمام إلى المجتمع المدني في مظاهراته، ليتفاجأ بسدّ الطريق أمامه بوصفه جزءاً من السلطة، لينقلب على الحراك الذي يعمّم الفساد على الجميع، متناسيًا أنّه من هذا الجميع، وبالتالي يوفّر غطاءً للفاسد الحقيقي وتجهيلاً له. ويأتي استعداد "التيار" للنزول إلى الشارع بدوره "تصويباً للبوصلة"، كما يقول، بعدما سُرِقت منه شعاراته، في سياق احتواء الحراك أيضًا، خصوصًا أنّ علامات استفهام بدأت تُطرح عن جدوى تظاهر من هو في السلطة ضدّ السلطة.
ولا يبدو موقف "حزب الكتائب" بعيداً عن هذه القراءة أيضًا، رغم تمتّعه بـ"حصة الأسد" من الحقائب المسيحية في الحكومة السلاميّة، ذلك أنّ رئيسه لم يتوانَ عن إبداء "افتخاره" بحراك المجتمع المدني، وصولاً لحدّ تسريب المعلومات عن وضعه "الاستقالة" التي لم ولن تحصل على ما تفيد الترجيحات على الطاولة، في محاولةٍ للإيحاء بأنّه جزءٌ من الناس، العبارة التي وردت بهذه الحرفية أيضًا على لسان رئيس الحكومة تمام سلام نفسه، وهنا تكمن المفارقة الكبرى...
انقلبت الأدوار؟!
اعترض كثيرون على شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي رفعه بعض متظاهري المجتمع المدني، وتبرّأ منه المنظّمون، تمامًا كما تبرّأوا من الكثير من الأمور والملابسات المحيطة بالمظاهرات التي حصلت. قال البعض أنّ القصّة مرتبطة بالنفايات فقط لا غير، في حين ذهب البعض الآخر للقول أنّ الشعب يريد إصلاح النظام، وذهب بعضٌ ثالث ليقول أنّ لا نظام أصلاً حتى يسقط أو يتمّ إصلاحه.
ولكنّ الواقع أنّ الأدوار انقلبت، فلم يعد الشعب هو الذي يريد، بل حوّل السياسيون أنفسهم إلى "أصحاب اللعبة" ليصبح شعارهم "السياسيون يريدون احتواء الحراك"، وتوحي الكثير من المؤشرات أنّهم نجحوا في ذلك إلى حدّ بعيد...