ليست الطبقة السياسيّة بمجملها فاسدة، فالتعميم يبطل الحقّ إذا رمناه في تحديد مكامن الخلل، وفي التوق لنظام سياسيّ تتأمّن فيه العدالة للجميع. يشي إيغال منظمي التظاهرات بمبدأ التعميم بعبثيّة تستجمع عناصرها من مشتل باتت خطوطه واضحة من خلال انغراس عناصر مدرّبة على استنهاض القوى الشعبيّة في اللحظات الحرجة، أو التي تسمّى باللحظات التأسيسيّة للكيانات أو الدول، وهي منغرسة في قيادة التظاهر بآفاق دولية واقتحام عربيّ فتحت الأبواب اللبنانيّة له ليعود جزءًا من كلّ يتصارع في هذا المدى، في وقت تتحضّر الأرض لتجسيد الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ، ويستهلك الحراك الشعبيّ في وسط بيروت بتحفيز وتحشيد إعلاميّ في وقت ضائع يشي بمزيد من الفوضى المتّسمة بالخطورة على الواقع اللبنانيّ برمتّه بدءًا من العاصمة بيروت. لا يعني هذا بأن ليس من "نفايات سياسيّة" مهيمنة ومنغرسة في البيئة السياسيّة بقيادتها لناس غررت بها وأعطتها كل مقوّمات الرفاه بالحدّ الأقصى وهم المحاسيب، أو المساعدات المالية في علاقة زبائنيّة مع هؤلاء كاشفة للعطب في بنية النظام السياسيّ اللبناني بتلاشي السلطات بل اختلاطها لتصير وجهًا واحدًا للتموضع المقيت المبتلع لأسس الدولة العادلة.
هنا لا بد من التوضيح، بأنّ الحراك في وسط بيروت، باستهدافه الطبقة السياسيّة بمجملها وبسلوكية التعميم الظاهرة، قد ميّع الحقيقة. والحقيقة أنّ مسألة تراكم النفايات، سببها "الحريريّة السياسيّة"، ومسألة الدين العام وقد بلغ أكثر من سبعين مليار دولار، قد انتمى إلى البيئة عينها، فلماذا التعميم؟ لماذا لا يقول المنظمون كلمتهم ويشيرون إلى أمراء الفساد بصدقٍ ووضوحٍ تامّين بدلاً من إذابة الصالح بفساد الطالح؟ لماذا لا تتمّ الإشارة إلى حقبة التسعينات من القرن المنصرم وصولاً إلى حقبة الألفين، وقد أخذ الوسط في بيروت حيث هم يتظاهرون إلى شركة خاصّة هي سوليدير بالقوّة والرغبة، من منطلق الترغيب والترهيب، حيث فرغ وسط بيروت من أهله الأصيلين؟ وتقول مصادر مراقبة في سياق نقد الحراك، بأنّ المتظاهرين قد أخطأوا العنوان البارحة عندما قرروا اقتحام وزارة البيئة، ذلك أنّ وزير البيئة محمد المشنوق لم يكن يومًا فاسدًا بل هو محبّ للبيئة وصديق لها، لقد فشل حتمًا بإدارة الملف إذ إنّه سياسيّ بامتياز وعاص على الحلّ وهو ليس بيده، من هنا تكمل المصادر بأنّ المشنوق كان عليه ان يقول الحقيقة بصورة جليّة، إذا ظهر متبنيًّا بصورة غير مباشرة للحريريّة المنشئة لهذا الملف سواء مع النائبين سعد الحريري وفؤاد السنيورة أو النائب وليد جنبلاط في الضفّة المقابلة، والذي أقفل مطمر الناعمة بصورة مفاجئة من دون بديل. المسألة الداخليّة بأنّ الحريريّة السياسيّة استعملت رئيس الحكومة تمام سلام المعروف بهدوئه واتّزانه في صراعها مع كلّ الأطراف وبخاصّة مع "التيار الوطني الحر"، وفي مسألة الفساد والنفايات لتغطّي ذاتها، وفي المقابل لم يقف سلام منتفضًا على هذا الواقع بدوره، متحرّرًا من تسلّطها، وهذا عينًا ما أضعفه وجعله وكأنّه هو المشكلة في حين انّه كان يمكن له أن يتفادى الولوج في تلك السلوكيّات ليبقى صلة وصل بين الجميع.
لكنّ المسألة أبعد من ذلك، النفايات في حقيقة الأمر، عنوان من العناوين الحديثة المكوّنة للأزمة اللبنانيّة بكلّ أبعادها، والمستهلكَة بالرؤى الخارجيّة. تقول بعض المصادر المعروفة بدقة ملاحظاتها، بأنّ المطلوب دوليًّا ومن بعض الجهات العربيّة، أخذ لبنان إلى فوضى هائلة ومتلاشية إلى حدودها التراجيديّة للضغط على "حزب الله" بصورة خاصّة، المنهمك في الصراع داخل سوريا لكي ينسحب منها نحو الداخل اللبنانيّ، أو على الأقل ليتم إضعافه في الصراع في سوريا حينما يحشر في هذه المسألة البالغة الحساسيّة والدقّة. وتأتي تلك المسألة بحساسيّتها في ظلّ نظام تأسيسيّ أعد للمنطقة بأسرها، وتتشعّب ادبياتها بحيث تنكشف من جوفها ضبابيّة لا متناهية في قراءة الأميركيين ليس فقط للبنان بل للمنطقة. ويطرح هذا المصدر سؤالاً: ماذا يريد الأميركيون للبنان في ظلّ انفجار الأزمة من الباب الشعبويّ؟ وقد رأى بأنّ ما يحدث غير بعيد عن رؤيتهم. وفي تحليل مسهب أبداه، اعتبر بأنّ الأميركيين يعدّون لبنان لمراحل جديدة، فيعيدونه إلى أن يكون بحدّ ذاته الطاولة التي عليها ترتيب الخطوط الجديدة للمنطقة. كثر من اللبنانيين لم ينتبهوا إلى عنوان أساسيّ وجوهريّ قد ظهر من بين عناوين أجندة التفاوض، وهو كتابة دستور جديد في سوريا، ومن المطالب الظاهرة عند منظمّي التظاهرة في بيروت، إجراء انتخابات نيابيّة وفقًا للنسبية. لكنّ الأساس والجوهر في كلّ هذا الاصطفاف بأنّ الطائف قد سقط بالكليّة، قد سقط بالممارسات الداخليّة قبل سقوطه دوليًّا وإقليميًّا وعربيًّا، والدستور اللبنانيّ منبثق من الطائف ممّا يشي بأنّ المسألة في حقيقتها تتمحور بوجوب كتابة دستور جديد للبنان، إنطلاقًا من طائف يعدّ وربّما نكون في مسقط.
الحراك في بيروت غير بعيد عن تلك الرؤية، إنها تنبعث منه بموجب الإرادة الأميركيّة الواضحة. لقد أعيدت قطر إلى الساحة اللبنانيّة لتكثيف الحراك، وكمقدّمة لانفجار ما تتحرّك فيه المفردات المذهبيّة والبنيويّة داخل "تيار المستقبل" بحدّ ذاته بين القطريين والسعوديين فيه، أي بين جناح السنيورة وجناح الحريري وهذا ما تخشاه المصادر، أي أنّ هنالك ما هو أبعد من الحراك على القاعدة الرحبانيّة خلف الساحة ساحة، وخلف الحراك إرادة، وخلف ساحة بيروت ساحات ملتهبة تنتظر لحظات التسويات الجديدة.
رئيس المجلس النيابيّ نبيه بري مدرك لخطورة الأمر، ومبادرته الحواريّة وفقًا للبنود السبعة على الرغم من الترحيب بها، ما هي سوى محاولة لتنفيس الاحتقان، لكنّ بعض الأوساط تخشى من عدم نجاحها، لكون لبنان دخل في اللحظات الحاسمة وليس بمقدور الداخل السيطرة على ما يتراكم من الخارج. وبيان القمّة الروحيّة الداعم لحكومة تمام سلام دعا لانتخاب رئيس للجمهوريّة، لكن رئيس الجمهورية لن يكون وبحسب الأوساط عينها سوى تمتمة لما سيتجه إليه الميدان من بيروت إلى دمشق إلى اليمن... مشكلة المتظاهرين أنّهم يطالبون باستقالة الحكومة، ويحاولون إسقاطها كحجارة الدومينو، تلك هي الخطة التي رسمت باتقان، تسقط الحكومة فيعلن الجيش حالة طوارئ، ويدخل لبنان حالة من الفوضى العارمة، إلى أن يأتلف معظم الفرقاء لإنقاذ وطنهم بدستور آخر يقود لبنان من وصاية إلى أخرى.
الحراك في بيروت بات مجوّفًا من مضمونه الشعبيّ والمحليّ، فمكافحة الفساد عنوانٌ بارز، وليس من خلافٍ حول هذا المبدأ، أو حول إصلاحٍ سياسيّ وإداري أمل به اللبنانيون طويلاً... فالمسألة باتت جزءًا من أنظومة تشدّ لبنان إلى هذا الإقليم الملتهب فيما الإقليم ماض إلى قراءات تسووية وتأسيسيّة جديدة. لقد تساءل بعض السياسيين، من يحرّك هؤلاء فجاءهم الجواب من السي أن أن "لبنان صار على أبواب الربيع العربيّ".